·وفي دعوتنا .. ندرك الفارق الكبير بين المدارة والمداهنة .. فلا نداهن في حق ولا نركن لباطل .. وإنما نعمل على مدارة الناس والتلطف بهم جلبا لمودتهم .. وطمعاً في استئلافهم .. ودفعاً لأسباب النافرة من بينهم .. فالمدارة مجاملة وملاينة .. مجاملة في التعامل وملاينة وملاطفة في الكلام .. وتجنب لما يورث البغضاء والنافرة .. وهي أدب عظيم وخلق نبيل .. تخلق به النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليه فقال: (مداراة الناس صدقة) .. وفي الحديث أنه أستأذن عليه رجل فقال صلى الله عليه وسلم : (ائذنوا له فبئس أخو العشيرة) .. فلما دخل ألان له الكلام .. فقالت عائشة : يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول .. فقال صلى الله عليه وسلم : (أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه ـ أو ودعه ـ الناس اتقاء فحشه).
·هي أخلاق النبوة في آداب المعاملة .. التي تجمع ولا تفرق .. وتحنو فلا تقسوا .. وتستعلي على حزازات النفوس طلباً للأسمى في استئلاف الناس وكسب ودهم والنجاة بهم .. يقول سحنون في وصيته لابنه : (وسلم على الناس ودارهم .. فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس).
·وأما المداهنة .. فأصلها من الدهان وهو الذي يظهر الشيء ويستر باطنه .. والمداهنة محرمة بالقطع عدها ابن حجر الهيثمي من الكبائر .. ومن المداهنة أن تمدح الرجل وتثنى عليه في وجهه ثم تقع فيه وتذكر عيوبه وتنتقص منه إذا غاب عنك. وقد ساق القرآن الكريم مجموعة من الصفات لا تتوافر إلا فيمن يداهن ويحب المداهنة .. (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) .. (وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ) .. (هَمَّازٍ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٍ(..(مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) .. (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ([القلم : 9،10 ،11، 12 ،13] .. فالمداهن حلاف .. يكثر الحلف ليوارى كذبه ويستجلب ثقة الناس .. وهو مهين لا يحترم آدميته ولا يحترمه الناس لهوانه عليهم .. وهو هماز .. يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة .. وهو مشاء بنميم .. يتخذ من النميمة والوقيعة بين الناس مسلكاً وسبيلاً .. وهو مناع للخير عن نفسه وعن غيره .. معتد متجاوز للحق والعدل إطلاقاً .. أثيم .. عتلٌ فظ في طبعه لئيم في نفسه سيء في معاملته زنيم اشتهر وعرف بين الناس بلؤمه وخبثه وكثرة شروره.
·ومن أسوأ المداهنة صنيع ذي الوجهين من الناس .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم (وتجد شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه).
·فإذا كانت المدارة هي حسن السياسة وكمال الكياسة وصفة العظماء من الناس، فالمداهنة هي صفة من لا خلاق لهم من الناس .. الذين تدنت همتهم وانتكست فطرتهم واتبعوا أهواءهم فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.
·ونحن في طريقنا ننأى بأنفسنا عن الوقوع في مهاوي المداهنة أو الركون .. وإنما نتخذ المدارة بقدرها (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)[الإسراء : 29] فلا إفراط ولا تفريط .