|
قواعد هامة في فقه الخلاف بقلم الشيخ/ أسامة حافظ
"من أمارات العظمة.. أن تخالف أحداً في تفكيره أو تعارضه في أحكامه.. ومع ذلك تطوي فؤادك علي محبته وتأبي كل الإباء أن تجرحه".
الشيخ محمد الغزالي
علمنا علماؤنا من السلف والخلف كيف يتسع الصدر لمختلف الآراء والاختلافات.. وكيف نتحاور دون أن نتنازع أو نتدابر.. وصنفوا في فقه الخلاف الكتب والمجلدات لينشروا ثقافة قبول الآخر وأعذاره في اختلافه.
وبقدر ما يتسع صدر المجتمع للآراء المختلفة والتنوع الفكري والاجتهادي.. بقدر ما تنتشر فيه روح الجدة والابتكار.. وعلي العكس من ذلك.. فبقدر ما تضيق الصدور بالمخالف وتنتشر سياسة القطيع والرأي الواحد بقدر ما تفقد الأفكار العمق والفاعلية.. وتشيع السطحية ويموت الابتكار والتنوع.. وهي الثقافة السائدة في عالمنا الثالث بكل طوائفه الفكرية بما فيهم الإسلاميون.
نعم .. نحن المسلمون من علم العالم كيف يختلفون.. ولكننا للأسف ابتعدنا عن دروس ديننا وهجرنا ضمن ما هجرنا هذه الروح الحضارية الراقية.
ونحن في هذه العجالة وبقدر ما يتسع المقام نشير إلي قواعد هامة في فقه الخلاف.. آملين إن مد الله في الأجل ووجدنا فسحة من الوقت أن نضيف إلي جهد من سبقونا بضع قطرات من رحيقهم.. نقول وبالله التوفيق..
1- الاختلاف في فروع العلم سنة كونية.. فطبيعة الدين بما فيه من سعة ومرونة وتنوع.. وطبيعة اللغة الحمالة للأوجه ودلالاتها الظاهرة والخفية والمجاز والحقيقة والمجمل والمبين ، وكذا طبيعة العقول والمدارك، وتغير الواقع الذي تنزل عليه النصوص زماناً ومكانا ً وحوادث.. كل هذه الأشياء تجعل الاختلاف وتنوع الاجتهادات شيئاً طبيعياً لا غرابة فيه.. وتجعل طلب الإجماع علي مسائل الاجتهاد الظنية المتنوعة غير منطقي.
2- رغم أن التنوع والاختلاف سنة بشرية إلا أن السعي لدفعه والخروج منه فريضة شرعية لتوحيد الكلمة وجمع الصف.. والعمل عند جمهرة أهل العلم علي استحباب الخروج من الخلاف لجمع كلمة المسلمين وقطع أسباب التنازع .
3- الخلاف ليس شراً كله.. فمنه ما هو مذموم مثل الخلاف الناشئ عن الغرور والعجب.. أو الخلاف الذي سببه الحرص علي الزعامة والمكانة والجاه.. أو الخلاف الناشئ عن سوء الظن واتهام الآخر.. وكذا ما ينشأ عن إتباع الهوى من خلاف.. أو قلة العلم أو عدم التثبت أو غير ذلك من أسباب ذميمة وصفات مرفوضة.
ومنه ما يكون مقبولاً مثل الخلاف حول الآراء المتعددة النابعة من مشرب واحد كالخلاف الصوري أو الخلاف اللفظي أو الخلاف الاعتباري.. وكذا الخلاف حول الأمور الظنية المحتملة في المدركات - ما تدركه الحواس والعقول -.. وفي فروع الشريعة ومثل الخلاف في الأمور العملية والمواقف السياسية.. وكذا مناهج الإصلاح والتغيير المبنية علي المصالح والأعراف وحاجات المجتمع.. وغير ذلك وأمثاله .
4- الاختلاف قد يكون فيه السعة والرحمة.. يقول عمر بن عبد العزيز: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة".
ويقول ابن عابدين الحنفي: "الاختلاف في الفروع من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس".. ثم يضيف "فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر".
5- الاختلاف أنشأ ثروة فقهية وقانونية ملأت صفحات الكتب ومجلداتها عبر التاريخ بثمرة عقول الجهابذة من فقهائنا وعلمائنا تأصيلاً وتقعيداً وتنظيراً.. يغترف من فيضها أهل العلم لا يشبعون علي مر العصور.. وكانت ولازالت هي بعض من ميراث حضارتنا العامرة بكل خير.
6- جمهرة الأصوليين يرون أن الحق والصواب واحد لا يتعدد في مسائل الاجتهاد الظنية.. لكن لا يستطيع أحد الجزم بموضع هذا الصواب.. بينما ذهب كثير منهم إلي أن الصواب يتعدد بتعدد الاجتهادات.. وأن كل مجتهد مصيب في اجتهاده مادام مستجمعاً لشروط الاجتهاد من نية صالحة وعلم بما يجتهد فيه وبذل للوسع في تحقيق موضوع الاجتهاد.. وهذا القول - وإن خالف الجمهور -قول قوي له مستنده من الأدلة ومناصروه من أهل العلم.
7- المجتهدون في فروع الفقه الظنية كلهم مأجورون.. من أصاب منهم له أجران أجر ما بذل من جهد وأجر الإصابة والمخطئ له أجر الجهد رغم خطئه مادام محققاً لشروط الاجتهاد.. والمجتهد المخطئ في مسائل الفروع مادام مأجوراً فإن ذمه واتهامه وتبديعه يكون مرفوضا بل نلتمس له العذر .
8 - الحق قديم كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينبغي أن يقبل من كل أحد مادام موافقاً للدليل..
فالقرآن ساق كلام بلقيس وهي كافرة - لم تكن قد أسلمت بعد - تعبد الشمس من دون الله فقال " قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً".. ثم عقب مقررا ما تقول فقال "وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ".
وفي صحيح البخاري ذكر كيف دل الشيطان أبا هريرة علي آية الكرسي فقال له صلي الله عليه وسلم "صدقك وهو كذوب".. مقرا لما قال فالحق والحكمة والصواب ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق الناس بها .
9 - الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق.. فالعصمة ليست لأحد غير النبي صلي الله عليه وسلم.. "وكل بني آدم خطاءون" كما يقول الحديث.
10- المخالفون ليسوا جميعاً علي درجة واحدة.. فمنهم المجتهد المخطئ – فيما نظن –.. ومنهم الجاهل المعذور.. ومنهم المتعدي الظالم.. ومنهم المبتدع صاحب الهوى.. ومنهم الكافر الضال المعاند.. والموقف من المخالف يتحدد علي حسب موضوع الخلاف وسببه.. ومدي استجابة المخالف للحق.
11- هناك فارق كبير بين الحكم المطلق وبين تنزيل هذا الحكم علي محل الفتوى.. فتنزيل الحكم علي الوقائع يحتاج إلي نظر واستدلال يسميه الأصوليون تحقيق المناط.. وكثيراً ما يكون سبباً للاختلاف لتباين وجهات النظر في تحقق الشروط وانتفاء الموانع.. وهنا لا يكون الخلاف حول الحكم الشرعي وإنما يكون حول إدراك الواقع ومدي مناسبته للحكم المنزل عليه .
12- والحكم المطلق قد يختلف أيضا عند تنزيله علي الأشخاص.. وذلك للنظر في عوارض الأهلية المختلفة وتحقق الأسباب والشروط وانتفاء الموانع.. فإطلاق الأحكام علي الأشخاص يستلزم معرفة جيدة بالشخص موضوع التنزيل حتى يصادف الحكم موقعه الصحيح.. وكثيراً ما يكون ذلك موضع الخلاف بين أهل العلم.
13- الكتاب والسنة لا يعارضان بمجرد العقل أو الهوى أو الذوق والوجدان.. وإنما الدليل يعارض بالدليل المساوي أو الأقوى.
14- موافقة الجماعة علي ترك الأفضل خير من مخالفتها علي الأولي.. فقد صلي ابن مسعود خلف عثمان رضي الله عنهما متما صلاته في الحج رغم مخالفة ذلك لاجتهاده.. وقال للناس "اتبعوه فإن الخلاف شر " وفي هذا المعني يقول ابن تيمية:
"ويسوغ أيضا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير عما يصلح.. كما ترك النبي صلي الله عليه وسلم بناء الكعبة علي قواعد إبراهيم".
15- لا يصح القطع في المسائل الظنية المختلف فيها.. وإنما نتبع القاعدة التي قالها الإمام الشافعي "إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ".. فإن التحاور مع المخالف مع توقع أن يأتي الصواب علي لسانه غير التحاور معه وأنت تجزم بخطئه .
16- لا حسبة ولا إنكار في المسائل الاجتهادية المختلف فيها عند جمهور العلماء.. وإنما الحوار والنقاش والمناظرة والنصح فقط لتقريب شقة الخلاف.
17- من المهم الدعوة والدعاية للتعاون في الأمور المتفق عليها والعذر في المختلف فيه من الأمور الظنية موضع الاجتهاد للقضاء علي التعصب والتنافر حول مواضع الخلاف.
18- ينبغي الاجتماع علي محاربة التعصب الناتج عن القصور في معرفة فقه الاختلاف والتعايش معه.. وذلك لحماية الفقه والمجتمع من أثر هذا التعصب للأراء الفقهية علي وحدة المجتمع .
19- الاختلاف في الاجتهاد في مسائل الفروع لا ينبغي أن يفسد ما بين قلوب المؤمنين من حب ومودة في الله.. فإن المختلفين مأجوران ومثابان وإن أخطأ أحدهما أو كلاهما .
20- فقه الخلاف هو بعض مما خاض فيه علماؤنا بحثاً وتفصيلاً وينبغي أن يدرس لشبابنا ليعتادوا علي قبول الآخر وتفهم رأيه ومبرراته وتلقي المخالف بما يحفظ الود والحب في الله.
21- علماؤنا وفقهاؤنا هم القدوة للشباب.. ولذا ينبغي عليهم أن يدركوا أنهم يربون الشباب بأعمالهم وأفعالهم قبل أقوالهم.. فليتعودوا علي حسن قبول الرأي الآخر.. وحسن التعامل مع المخالف ليقتدي بهم الشباب .
22- في النهاية ينبغي أن يشارك الإعلام في ترسيخ مبدأ قبول الآخر ودعوة الناس لتوسيع صدورهم لتنوع الاجتهاد واختلاف الآراء مادام لم يمس الاختلاف قطعيات الدين وثوابت المجتمع.
عودة الى الأحكام
|