|
ثقافة الوقفات الاحتجاجية رؤية تحليلية بقلم م/ محمد يحيى
أزعم أن الوقفات الاحتجاجية للمطالبة بالحقوق وتحسين الأجور ثقافة جديدة وسلوك جيد وجديد بدأ يتوغل ويستقر في وجدان الشعب المصري.. الذي صبر كثيراً وأجر قليلاً.. وربما يوفي أجره يوم القيامة حيث لا يشفع لبعض المسئولين المقصرين رجال الأعمال.. ولا يخفف من عذابهم دعم الخبز والبنزين والعلاج على نفقة الدولة.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يشفع لهم هو إفساح المجال لفريق جديد من أهل الكفاءة والنجدة والخلق ممن يخافون الله ويعرفون للوطن حقه وللشعب قدره.. وهؤلاء موجودون بيننا لكن لا أحد يعرفهم.. ولا سبيل للاستفادة منهم.. فهم لا ينتمون لحزب ولا لعائلة ولا يهتمون إلا بمصلحة الأوطان العليا.
وأعزم أن هذه الثقافة الجديدة في تعامل الشعب مع قضاياه الاجتماعية والسياسية.. تمثل نقلة توعية لا يستهان بها.. لأن سلوك وثقافة الشعب المصري في المطالبة بحقوقه في الماضي كانت كلاسيكية جداً.
وفيها ثلاث صفات في غاية الخطورة:-
الأولى:- الشعب المصري أقرب إلى ثقافة التقليدية منه إلى ثقافة التجديد والابتكار.. ساعد على ذلك موروث ثقافي مستمد من فهم خاطئ لبعض النصوص الدينية.. هذا الموروث حرم الاجتهاد وإعمال العقل.. ليس فقط في النصوص الدينية ولكن حتى في المسائل الدنيوية.
حتى أنهم يقولون لك "لا خير لك في شئ ليس لك فيه سلف".. وقد يكون هذا صحيحاً في مسائل الاعتقاد وأصول الشريعة وقواعد الدين الكلية.. ولكن في غير ذلك من الأمور التي يسوغ حولها الخلاف فإن تحريم إعمال العقل فيها يعتبر إرهابا ً فكريا ً وزندقة حركية وجحودا ً سياسيا ً.. وبعض الحكومات يشجعون على هذا الفهم.. لأنه يؤمن كراسي الحكم ويحرسها بنصوص دينية مقدسة.
والوقفات الاحتجاجية تقليد لغير المسلمين وليس للسلف الصالح رحمهم الله ولكنه تقليد لا ينكره الشرع ولا يأباه ما دام يجلب الحقوق بطريقة سلمية دون إفساد أو تخريب.
الثانية:- الشعب المصري أقرب إلى ثقافة الخوف والانكسار منه إلى ثقافة المواجهة والتحدي.. وقد يكون هو الشعب الوحيد الذي عبد حكامه على مر التاريخ القديم.
حيث قال لهم فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي).
وقال أيضا ً: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) .
ولم يذكر القرآن أي اعتراض من الشعب على المقولتين.. والشعب المصري من الشعوب التي تصبر طويلا ً وكثيرا ً حتى يعجز الصبر عن صبرهم.
الثالثة: الشعب المصري أقرب إلى ثقافة العنف الفوضوي منه إلى ثقافة العنف المنظم.. ولذلك يخشى أي حاكم لمصر هذا النوع من العنف لأنه مدمر ولا تستطيع أن تحاسب عليه أحدا ً.. وميل الناس إلى هذا النوع منطقي لأنه يفرغ الكبت ويشفي الصدور ويروي الغليل دون أي عقاب أو محاسبة.
فعلى سبيل المثال أحداث 18و 19يناير عام 1977م حوكم المتهمون فيها خمس مرات.. ولكن لم يدن فيهم أحد.. وبعضهم الآن في مناصب مرموقة.
والمتأمل للمشهد الاحتجاجي على رصيف مجلس الشعب يجد أن الشرطة تتعامل مع المحتجين بشكل حضاري محترم.. وتوفر لهم الأمن والاحتياجات الأساسية.. وهذا أيضا ً سلوك جيد وجديد.. كما أن جميع الوقفات الاحتجاجية انتهت بشكل إيجابي.. وتم تلبية معظم أو كل مطالب المحتجين.
واللقطة الأخيرة المتكررة لجميع الوقفات الاحتجاجية عبارة عن رقص وهتافات ولافتات.. وقصائد شعر مرتجلة في مدح وحب الحكومة والدعاء لها بطول البقاء ودوام المعروف وحسن الخاتمة.
واعتقد أن التعامل بهذا الشكل الحضاري مع الوقفات الاحتجاجية ليس سلوكا ً عشوائيا ً ولا قرارا ً فرديا ً.. ولكن سياسة مدروسة بدقة وتوجه جديد يتناسب مع الظروف التي تمر بها مصر.
وهنا تختلف التأويلات وتتفاوت التفسيرات لهذا التوجه الحكومي:-
فالبعض يعتبرها رشوة انتخابية للحصول على أصوات الناخبين بشكل مشروع وحلال في عرف السياسة.. فهذا أفضل من التزوير والبلطجة.. والاحتياج لمقاعد المستقلين لتأمين أغلبية مريحة للحزب الوطني.
بينما يرى البعض الآخر أن هذا السلوك تقدم وتطور ونضج سياسي وإصلاح حقيقي ووثبة كبيرة إلى الأمام يجب المحافظة عليها ورعايتها ومساعدة الحكومة على المضي فيها.. وذلك بالابتعاد عن المهاترات والمزايدات والاستقواء بالخارج والمتاجرة بمصالح البسطاء.
وهناك قول ثالث يرى أن ما يحدث هو مؤامرة وتمثيلية أخرجت بشكل متقن ليتم تمثيلها على رصيف مجلس الشعب بشكل دعائي واضح.
ويبالغ أصحاب هذا الرأي عندما يقولون أن قيادات ورموز الوقفات الاحتجاجية تم تدريبهم وتلقينهم في مخابئ وسراديب الحزب الوطني.
وأنا شخصيا ً لا أميل لهذا التفسير ليس فقط لأنه مغرق فقط في نظرية المؤامرة.. ولكن أيضا ً لأن الحزب الوطني ليس بهذه القوة.. والناس ليسوا بهذه الخسة.. ومصر ليست بهذا القدر من التخلف.. وهذا الرأي ينتمي لحقبة الستينات.
وأرى أن الوقفات الاحتجاجية نوع من النضوج السياسي والحركي لدى قطاعات كبيرة من الناس وجدوا لهم متنفسا ً وملاذا ً آمنا ً للحصول على حقوقهم.
كما أن تعامل الدولة الإيجابي معهم شجعهم على الاستمرار.. وشجع غيرهم على التقليد.. واستفادة الحكومة من هذه الظاهرة وتوظيفها لها أمر مشروع سياسيا ً ومطلوب إستراتيجيا ً.
لكن السؤال المهم هو:
هل سيستمر السلوك الحكومي المتحضر تجاه الوقفات الاحتجاجية بعد الانتخابات أم سيتغير؟!!.
ولاسيما أن الشعب المصري كله عنده مظالم تستحق النوم على رصيف مجلس الشعب إلى يوم القيامة.
الثلاثاء الموافق:
4/6/1431هـ
18/5/2010م
عودة الى وراء الأحداث
|