|
مرحبا ً باستقالة جابر عصفور بقلم/ هشام النجار
عندما قال الكاتب الكبير "بيتر فايس" عن الثورة الفرنسية:
" وضعنا ماكينة الثورة.. لكننا لا نزال نجهل طريقة استعمالها".
كان دقيقا ً جدا ً في وصفه الذي ينطبق على كثير من الحركات التحررية على مستوى العالم قديما ً وحديثا ً .
فالقليل من الثورات هي التي كتب لها النجاح والاستمرار .. لعدة أسباب:.
الأول: الثوار غالبا ً ما يكونون من عامة الشعب المقهور الذي وصل به الكبت والظلم والإذلال والحرمان والاحتقار والإهانة إلى درجة الغليان.. فيثورون ويخرجون إلى الشارع صارخين دون خوف على حياتهم بعد أن فقدت حياتهم معناها وقيمتها .
يثورون ويخرجون مطالبين بالتغيير والمساواة والعدالة والحرية وملاحقة ومحاسبة الفاسدين الطغاة .. الذين طالما قهروهم وحرموهم من خيرات بلادهم.. مطالبين بحقوقهم السياسية والاجتماعية في وطنهم .. وهذه في مجملها مطالب معظم الثورات وأحلام كل الثوار.
لكنهم يجهلون آلية تحقيق هذه المطالب على أرض الواقع .
الثاني: أن تتم سرقة الثورة من داخلها.. بمعنى أن يستغل فصيل قوى من فصائل الثورة الأحداث ويفرض نفسه بقوة .. ويقدم رموزه وقادته كبديل للكل في ظل ضعف السلطة وتشرذم باقي الفصائل والتيارات.
وهذه الحالة من أسوأ وأبأس صور فشل الثورات رغم التغيير الحاصل .. لأننا بذلك نكون قد استبدلنا استبدادا ً باستبداد .. وأوصلنا بأيدينا جلادينا إلى السلطة .. ظنا منا أنهم سيكونون أرحم وألطف وأشرف وأنبل وأعدل من سابقيهم .
وحدث هذا من خلال نموذجين لا يزالان يشيعان الخوف والرهبة والرعب في النفوس من مجرد تذكرهما.. وذكر ما ارتكبا من وحشية وفظائع يشيب من هولها الولدان في حق الشعوب:
الأول هو الثورة الشيوعية الروسية التي انهارت بعد أكثر من سبع عقود من الحكم بالحديد والنار والقهر .
والثاني هو الثورة الإيرانية التي تلبست زورا ً بالرداء الإسلامي.. وهى أبعد ما تكون عن تعاليم الإسلام وفلسفته في الحكم.
وهذه الأخيرة لا تزال حاكمة إلى يومنا هذا بالقهر والديكتاتورية لشعبها الذي مهد لها السبيل واستقبلها بالورود.. فأحرقت الأرض من تحت قدميه وحبسته خلف قضبان الحديد .. وخاصة أهل السنة في إيران.
ومن المضحكات أن يخرج مرشد هذه الثورة مؤخرا ً في خطاب ألقاه باللغة العربية .. محاولا ًالظهور في مشهد ميدان التحرير لأغراض طائفية وسياسية معروفة.. محرضا ً شباب مصر على الثورة على الفساد والاستبداد !!
والمصريون ثاروا بطبيعة الحال بدون توجيه من أحد.. ولو أن خامنئى ألقى هذا الخطاب بالفارسية موجها ً إياه إلى الشعب الإيراني المقهور.. لثار عليه وعلى المجموعة التي تحكم إيران منذ قيام الثورة بالحديد والنار.
الثالث: هو أن تقع أطياف الثورة وتياراتها وفصائلها في فخ التنافس والتناحر والاختلاف.. فيعطى قوة للسلطة التي تنتهز الفرصة الثمينة وتنفرد بكل فصيل على حدة.. مع تقديم بعض التنازلات الشكلية التي قد تهدئ من غضب الشارع بعض الشيء.
لكنها على المدى البعيد لا تمثل تغييرا ً جذريا ًفي النظام السياسي القائم الذي ثار الناس وخرجوا من أجل الخلاص منه وتغييره.. وليس فقط من أجل تغيير بعض الوجوه والأسماء وإجراء بعض الإصلاحات المحدودة .
الرابع: هو أن تستخف السلطة بالثورة وتعاند الشعب وتحتقر الثوار وتهزأ بمطالبهم.. مستندة على القوة .. وفلول المستفيدين منها ومن بقاء الوضع على ما هو عليه .
وهى إن كانت تظهر بعض التجاوب وتحقق بعض المطالب.. فهي تلتف على مطالب أخرى جوهرية.
وقد تخرج إلى الناس بتصريحات مطمئنة وبيانات ايجابية.. وعلى أرض الواقع لا يجد الناس صدى لهذه التصريحات أو ترجمة عملية لتلك البيانات .
وأقول:
أن التخوف الأكبر لدى الآن على هذه الثورة المباركة أن تفشل - لا قدر الله - ليس من السبب الأول.. فقد طمأنني كثيراً خروج الحكماء والعلماء والمثقفين والرموز إلى جانب الشباب في ميدان التحرير .
فإن كنا قد خشينا في البداية على هؤلاء الشباب أن تضيع تضحياتهم وأن تذهب صيحاتهم أدراج الرياح .. لأنهم يجهلون آليات التغيير.. ولا يفقهون كيف يسيرون الأمور.. ولا كيف يطرحون رؤاهم ويعرضون أفكارهم ويحددون أهدافهم .. ولا كيف يفاوضون إذا جلسوا على مائدة الحوار؟
ولا كيف يشاركون في وضع أسس وملامح المرحلة الجديدة؟
فقد انضم إليهم من يستطيع ذلك كله باقتدار .. فأصبح صوت الفقهاء والمفكرين والعلماء يؤازر صوت الخطباء وأصحاب الشعارات والهتافات.. وأصبح النخبة جنبا إلى جنب مع العامة والشباب العادي الذي لا يحمل فكرا ً وعلما ً.. إنما خرج فقط تحت ضغط القهر والظلم .
ولا خوف اليوم على هذه الثورة من فصيل من فصائلها ولا تيار من تياراتها.. والذين كانوا يتخوفون من وجود الإخوان المسلمين لا معنى الآن ولا مبرر لمخاوفهم بعد أن أظهر الإخوان المسلمون نضجا عاليا في التعاطي مع الحدث حتى وقتنا هذا .
والإخوان هم أكبر الفصائل السياسية المشاركة في ثورة الشباب.. وأكثرها تنظيما ً.
وأظن أن الذين كانوا يستخدمون الإسلاميين كفزاعة للإجهاز على مطالب الشعب المصري بالحرية والديمقراطية الحقة قد ابتلعوا ألسنتهم الآن.. بعد أن رأى العالم كله الإخوان المسلمين في هذا الظرف الحساس لا يتكلمون عن حكم إسلامي ولا ثورة إسلامية.. ولا يسعون إلى احتكار أو إقصاء أحد .
ولكنهم كما رأينا وسعدنا كثيرا ً بذلك أول من طالبوا بالمشاركة وبالتغيير الديمقراطي السلمي والدولة المدنية والنظام السياسي التعددى.
لكن لا أخفى أنني تنتابني الهواجس وبعض المخاوف من حين لآخر على هذه الثورة والانتفاضة المباركة من الفشل لا قدر الله .
فقط من جهة الالتفاف على المطالب.. واللعب بعامل الوقت حتى يتم في النهاية إنامة هذا العملاق الذي صحا .. مطالبا ً بحقوقه وحريته ومعاقبة ظالميه.
الكرة الآن في ملعب النظام الحاكم وفى ملعب الرئيس حسنى مبارك ونائبه القوى المخضرم عمر سليمان ورئيس وزرائه صاحب الطلة المميزة والقبول الشعبي الفريق أحمد شفيق.
فهناك الكثير الذي بوسعهم تقديمه لطمأنتنا وإراحة هذا الشباب الثائر وإزالة كل الشكوك حول جديتهم في التغيير والإصلاح وتحقيق المطالب الشعبية .
فما معنى بقاء بعض رجال الأعمال الذين كانوا سببا ً رئيسيا ً فيما حدث والذين تحوم حولهم الكثير من الشبهات حول كيفية تكوين ثرواتهم في ظل الزواج المشئوم الذي كان قائما ًبين السلطة ورأس المال؟
لماذا لا يرحل هؤلاء الآن؟
ولماذا لا يختفون تماما ً من الصورة ؟ .. ومن المشهد السياسي ؟
وما معنى بقاء وزيرة كعائشة عبد الهادي على رأس وزارة القوى العاملة.. رغم الفشل الذي حققته في ملف البطالة.. الذي مثل محركا ً فاعلا ً لثورة قطاع كبير من الشباب العاطل عن العمل ؟
لا أدرى ما جدوى بقاء شخصية كانت قبل شهرين اثنين فقط .. تستفز خريجي الجامعات بمطالبتهم بالعمل كحراس أمن في المولات التجارية .. لأن الدولة لا تستطيع توظيفهم ؟!
وما معنى بقاء وزير إعلام كأنس الفقى .. وقد أثبت على مدى سنوات أنه رجل محترف في العداء لحرية التعبير والرأي الآخر ؟.
وخلال أدائه للأزمة منذ اندلاع المظاهرات إلى اليوم.. نشعر بأنه يخاطب بجهاز إعلامه شعبا ً من السذج والبلهاء.
ولا يزال إلى وقتنا هذا متحدثا باسم الحزب الوطني الديمقراطي.. محسنا ً صورته.. داعما ً لنفوذه.. مدافعا ً عن جرائم بعض رموزه.
في مقابل تخوين الشباب الثائر والصاق التهم بهم وتشويه صورتهم في محاولة لإخافة الشعب من ثورتهم على طريقة فرعون القديمة البالية:
والحمد لله أن استقال وزير الثقافة الجديد د/ جابر عصفور ؟
فماذا كنا ننتظر من شريك الوزير السابق الأساسي أن يقدمه في هذا الوضع الحرج الذي تمر به البلاد؟
هل ننتظر من الذي تعب وأفنى حياته وعمره في تشييد الحظيرة الثقافية تفكيكها وإطلاق سراح المثقفين المستأنسين منها ؟
ماذا كنا ننتظر من رجل معروف بتطرفه الشديد تجاه الفكر الإسلامي.. وطالما وصفه بالتخلف والرجعية والانغلاق.. واتهمه بالتسبب في تأخر العرب عن ركب التقدم والمدنية؟
وها هو يصرح قبل أسبوعين اثنين من اختياره وزيرا ً للثقافة في ندوة "العرب يتجهون شرقا ً" التي أقامتها مجلة العربي.. قائلا ً :
" إن العالم العربي لا يزال وعيه منغلقا ً.. ويزداد انغلاقا مع الأسف نتيجة صعود حركات رجعية تمسك بخناقه " .
ولا يطلق جابر عصفور صفة "رجعية" إلا على الحركات التي تحمل الفكر الإسلامي.
ولم يسن الدكتور/ جابر عصفور يوما ً قلمه إلا لأمرين:
إما لشن هجوم على الفكر الإسلامي.
أو لتمجيد أعمال أحد المفكرين المثيرين للجدل مثل نصر حامد أبو زيد.. أو للثناء على إبداع أحد الأدباء المسيئين للإسلام.. وتعاليمه أمثال حيدر حيدر وغيره.
هذه بعض الأمثلة لشخصيات لا تحتمل هذه المرحلة من تاريخ مصر بقاءهم ووجودهم .
مصر تريد أن تتنفس هواء ً جديدا ً.. وبحاجة إلى أن تفتح نوافذها وأبوابها لجميع أبنائها من مختلف الانتماءات .
مصر بحاجة اليوم أن تتحرر من تلك العقول المتطرفة الضيقة التي لا تقبل بوجود وحضور الآخر .
والشعب يريد أن يرى وجوها جديدة بسياسات وأفكار ورؤى جديدة.. لا تستفزه.. ولا تثير في نفسه الشكوك والظنون والهواجس نحو جدية السلطة في سعيها للتغيير والإصلاح وتحقيق مطالب الشعب .
عودة الى وراء الأحداث
|