|
العراق.. فى القصة تفاصيلٌ أخرى بقلم د/ أيمن الصياد
لم يكن ما جرى فى العراق مفاجئا ً وإن بدت صورته كذلك.. فلكل النتائج مقدماتها وبداياتها.. ولكل قصة جوانبها التي قد ننساها أو نتناساها وسط صخب الأخبار المتسارعة، والصور المتلاحقة وتحيزاتنا «المتعصبة» العقيمة.
كان اليوم أحد أيام شهر فبراير ٢٠١٣، وكان الخبر الأبرز من بغداد ــ إلى جانب التفجيرات اليومية التي لم تعد لاعتيادها خبرا ــ هو الاحتجاجات واسعة النطاق فى «الأنبار» غربي العراق، والاعتصام المتواصل فى «الفلوجة» التي كانت دومًا عنيدة والذي أخذ من ناحية الشكل اعتصامات الميادين والساحات فى عواصم التغيير العربى المختلفة.
يومها وعلى هامش اجتماعات القمة الإسلامية فى القاهرة التي حضرها نورى المالكي رئيس الوزراء العراقي حتى اليوم كان أن أدرت جلسة حوار ضيقة مغلقة شارك فيه عدد من معاوني الرجل إلى جانب أكاديميين عراقيين وعدد من المتخصصين الدوليين فى تدابير «العدالة الانتقالية» كأسلوب وحيد لضمان سلمية التحول الديموقراطي بعد عقود من الاستبداد.
حول الطاولة الصغيرة.. كان المسئولون العراقيون يحاولون أن يجدوا حلا لما بدا معضلة احتجاجات جماهيرية تتسع يوما بعد يوم.
وأذكر أنه عندما تطرق أحد المتحدثين «الخبراء» إلى الحديث عن خطورة «الهيمنة المطلقة للأغلبية» خاصة فى مراحل التحول، أن رد أحد «المسئولين» العراقيين بأنه لا صحة للحديث المتواتر عن «الاستحواذ»، متسائلا:
هل تعلمون كم يبلغ عدد المحافظين الشيعة؟!
ردت عليه موظفة كبيرة فى الأمم المتحدة (تصادف أنها عراقية): لا يهم العدد.. الأهم هو «إحساس الناس».. ساعتها تذكرت ما تعلمناه فى كتب القانون من أن «العدالة إحساسٌ لا نصوص».
وساعتها وكان قد مر على سقوط صدام عشر سنوات كاملة أدركت عمق الأزمة لدى أنظمة ما بعد التغيير فى عالمنا العربى؛ حين يغيب المفهوم «المتكامل» للديموقراطية، فيجرى اختزاله فى الصناديق. وحين تغيب عن القائمين على الأمر حقيقة أن للتحول الديموقراطي «السلمي» شروطا وخارطة طريق «تشاركية»، إن فقدنا بوصلتها يصبح الثمن بالضرورة باهظا. وحينها ينمو شيئا فشيئا شعورٌ بالإحباط لدى الناس وإحساس بأن كل ما جرى من تغيير ليس أكثر من أن «الاستبداد يغير قبعته»
لم ينته العام (٢٠١٣) حتى كانت السلطات المركزية العراقية قد فضت بالقوة اعتصام الفلوجة الذي كان قد استمر قرابة العام، مانحة باستخدامها المفرط للقوة تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش» فرصة دخول المدينة بزعم حمايتها.
وعلى الناحية المقابلة بدا وجود «الجهاديين السنة - داعش» مطلوبا من الجميع على تناقض أهدافهم.. فمسلحو المدينة «السنية» وعشائرها، رغم اختلافهم الجذري مع حاملي الرايات السود كأسلوب حياة (مشهد الاحتفال بإشعال النيران فى كومة ضخمة من علب السجائر التي باتت محرمة كان لافتا) إلا أنهم كانوا على استعداد للتحالف معهم ضد الجيش العراقي النظامي الذي ينظرون إليه «كأداة بطش» فى يد نظام شيعي طائفي يرون أنه عمل على تهميشهم، إن لم يكن إقصاؤهم.
وبالطبع لم يكن موقف رجال الجيش العراقي القديم «جيش صدام» والذي كان قد جرى التخلص منهم مختلفا.. وكذلك موقف قوى إقليمية كانت قد استدعت «تحريضًا ومساندة لوجيستية» الخطاب الطائفي قلقًا من تزايد ما اعتبروه مدًا شيعيًا له تبعاته الجيوستراتيجية.
والمثير أن وجود الجهاديين (وصور راياتهم السود) وإرهاب تسجيلاتهم الدموية بدا أنه مطلوب أيضا من الحكومة المركزية فى بغداد، كغطاء منطقي ومضمون للحشد «داخليا وخارجيا» لعنوان المعركة ضد الإرهاب.
وللصراع السياسي مع الزعامات المحلية. وهو بالمناسبة الغطاء ذاته الذي قدمته «الرايات السود» لبشار الأسد الذي بدا المجتمع الدولي على استعداد لغض الطرف عن براميله المتفجرة خوفا من ذلك القادم المجهول «العابر بطبيعته للحدود».
كانت هذه بدايةَ القصة.. ولكنها ليست بالضرورة نهايتها التي لا نعرف بعد. «فالذي يُحضِّر العفريت، لا يملك دائما أن يَصْرِفه» كما تقول جداتنا.
يخطئ إذن من يعتقد أو يحاول أن يجعلنا نعتقد بأن بوسعه أن يتنبأ بما ستصير إليه الأمور فى العراق المرتبك المتشابك «إقليميا ودوليا».
ولكن تبقى الحقيقة الوحيدة المؤكدة أن ما جرى فى العراق «القوى» قبل ربع قرن (أغسطس ١٩٩٠) كان حجر الزاوية فى كثير مما جرى إقليميا.
وأن العراق الذي ضربت إسرائيل مفاعله النووي (يونيو ١٩٨١) قبل أن تجتاحه «عاصفة الصحراء» العربية الأمريكية (يناير ١٩٩١) كان أول الخارجين من معادلة القوى الإقليمية، التي جرى إعادة ترتيبها بعد مغازلة السفيرة الأمريكية لغرائز الديكتاتور الإمبراطورية فى ذلك اليوم الحار من أغسطس ١٩٩٠.
استُدرِج صدام «القادسية» إلى الكويت، ليخرج منها يلعق جراحه مكابرًا لسنوات تحت الحصار قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فى مشهد السقوط الأخير لتمثاله فى ساحة الفردوس فى قلب عاصمة الرشيد (أبريل ٢٠٠٣).
لتنقل لنا الشاشات يومها كيف انهال بسطاء العراقيين على التمثال بالأحذية، فى مشهد يشبه ما جرى لصورة مبارك فى تظاهرات المحلة الكبرى الشهيرة (أبريل ٢٠٠٨)
احتفالات وصعوبات ومحاكمات وإعدامات. ثم كان أن استبدل العراقيون الجدد بتدابير «العدالة الانتقالية» الضرورية لتحول ديموقراطي سلمى، ما بدا عدالة «انتقامية»، كتب السطر الأول فيها المبعوث الأمريكي بول بريمر بسياسة اجتثاث البعث الإقصائية، وبتسريح الجيش العراقي.
ثم كان ما كان مما بدا انتقاما «مفهوما» من طوائف عانت الظلم والتمييز بل والتطهير العرقي «كيماويا»، تحت رايات الوطنية والقومية إبان الاستبداد وحكم الحزب / الرجل الواحد.
ثم كان أن استدعى جديدُ بغداد هواجسَ «الهلال الشيعي» عند قوى إقليمية كانت قد ساعدت أصلا على إسقاط بعث صدام، فدفعت بكل قوتها فى الاتجاه المعاكس محاولة أن تحقق توازنا على شاطئ الخليج «المختلف حاول اسمه»، مستدعية إلى سياسة الحاضر ثأرات «ومصطلحات» تاريخٍ قديمٍ يعود فصله الأول إلى ما قبل أربعة عشر قرنا من الزمان.
فى أرض بها على الأقل خمس قوميات وخمس لغات وإحدى عشرة عقيدة دينية لم يكن ذلك أبدًا سهلا، أو بالأحرى لم يكن من الممكن أبدًا التحكم فى مياه نهر تتعدد روافده ولا يعرف غير أن مياه «الأهوار» بلا شاطئ.
يبقى أن حديث المؤامرة الذي يضع كل ما يجرى فى منطقتنا فى سلة استخباراتية، لا يخلو من تخديرٍ وتبسيطٍ مخل.. فضلا عن إدمان للبحث عن مشجب نعلق عليه إخفاقات دول فشلت فى إدارة التنوع الطبيعي بين مواطنيها.
فلا جديد فى حقيقة أن لا شبر فى منطقتنا يخلو من أصابع استخباراتية لكل أجهزة العالم.. وأحسب أن هذا من نافلة القول فى منطقة «سائلة» انهارت ثوابتها فى أغسطس ١٩٩٠، ثم انفجرت شوارعها فى ديسمبر ٢٠١٠ تحت ضغط استبداد كان قد فاق كل حد وتجاوز كل طاقة.
ولكن صحيح أيضًا أن المسئول الأول عن تقسيم السودان ليس الغرب ولا بعثات «التبشير»، كما يحلو لنا أن نقول، بل «البشير» ونظامه الذى يحاول أن يرتدى العمامة.
كما أن المسئول الأول عن ضياع أركان «الدولة» فى ليبيا ليس ثوارها، ولا الذين جاءوا عبر المتوسط، بل نظام، لا يعرف مثل الليبيين أنفسهم ماذا فعل فى بلادهم.. والحبل فى منطقتنا «على الجرار» كما يقول المثل.. وليس أكثر من «المرايا» فى عواصمنا «المتشابهة».
الدروس القديمة- الجديدة التي يعيدها علينا العراق تتلخص فيما يلى:
١ــ «فى التنوع ثراء» .. هكذا تعلمنا الطبيعة وسنن الله فى خلقه.. والدولة التي تفشل فى إدارة التنوع تضع نفسها ومواطنيها على طريق قد ينتهي بما نراه فى العراق..
٢ــ عندما تتباهى الأغلبية بكثرتها وقوتها محاولة إقصاء الآخر، تهيئ البيئة للاستقطاب والتطرف، ويحدث ما حدث فى العراق. «أسوأ الديكتاتوريات ديكتاتورية الأغلبية».
٣ــ لا يزدهر التطرف ويجد ظهيرا ً شعبيا ً إلا وسط بيئة من الإحباط والإحساس بالتمييز وغياب العدالة والمواطنة.. فيحدث ما حدث فى العراق.
٤ــ الذين لعبوا مبكرا بنار الطائفية مستدعين الدين إلى ساحة السياسة، لم يدركوا أن هذه هي النتيجة.. «معظم النار من مستصغر الشرر».
فى تلك الجلسة التشاورية يومها حول «العدالة الانتقالية»، كان أن استدعينا مع العراقيين ما تعلمناه من أن «الصندوقراطية» غير الديموقراطية، وأن بناء مجتمع ديموقراطي حقيقي يتعايش أبناؤه ويتعاونون لبناء المستقبل يحتاج ما هو أكثر من صور الأصابع المغموسة بالحبر على أبواب مراكز الاقتراع، وأن الطريق الممهد لفشل الدولة، هو أن يتباهى فريق بالأرقام والنسب المئوية ناسيا ما تقوله تجارب التاريخ من أن أسوأ الديكتاتوريات هي «ديكتاتورية الأغلبية». هكذا تعلمت أوروبا درس «الرايخ الثالث» وهكذا علمنا سبحانه درس حُنَين «.. إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ» مع الأخذ فى الاعتبار باختلاف السياق.
وبعد..
رغم أن الكل إقليميا ً ودوليا ً بات صاحب مصلحة فى إعادة العفريت إلى قمقمه، إلا أن البادي فى الأفق حشدٌ طائفىٌ ينذر بما لا تحمَد عقباه.
والمشهدُ الجاثمةُ ظلاله على منطقة دخلت قرنها الواحد والعشرين، لا يكاد يختلف عما عرفته مائة مرة على مدى تاريخها المكتوب: تحت رايات «دينية»، يختلف الساسةُ على السلطة، فيندفع أولئك المؤمنون البسطاء الغيورون على دينهم، طالبين الموت والجنة. فتدور الدائرة «المقدسة» للعنف والدماء.
يتقدم العالم كله من حولنا.. ونبقى فى مكاننا نستدعى ثأراتنا القديمة، ونستل سيوفنا الصدئة.. نجلوها ثم نزخرفها بالشعر والآيات الكريمة.. لنحارب معاركنا القديمة التي لأنها «مقدسة» فلن تنتهي أبدًا.
لا ننشغل كثيرا بالاستبداد، لأننا منشغلون بمعاركنا القديمة.
ولعل فى هذا تلخيصٌ لقصة تاريخنا كله.
الاثنين الموافق
18 شعبان 1435
16-6-2014
عودة الى وراء الأحداث
|