|
ثلاثية غرناطة واجترار الآلام .. للدكتورة رضوى عاشور 
بقلم/ إسماعيل أحمد
ظننت حين قرأت هذه الرواية لأول مرة أنها لمؤلفة فلسطينية.. معللا ً هذا الظن بإهدائها الرواية لولدها تميم البرغوثي في افتتاح الرواية.. والذي يوحي اسمه أنه فلسطيني ولأن من تروي معاناة القهر والاحتلال بهذا الصدق.. لابد أن تكون مجربة لهذا الشعور، لكن الأيام كشفت لي فيما بعد أن الدكتورة "رضوى عاشور" أستاذ الأدب الإنجليزي بآداب عين شمس وعضو مؤِّسسة في "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية" مصرية الجنسية فزدت عجبا ً وإعجابا ًً.
وأما الرواية فقد لاقيتها قدراً ومن غير سابق تهيئ ضمن إصدارات مكتبة الأسرة - في مكتبة سجن الوادي الجديد - حين انفسحت علينا جدرانه.. وعدنا نلاقي معاملة الآدميين.
- والرواية تصور في ثلاثة أجزاء معاناة أهل الأندلس بعد سقوط غرناطة ومنها تبدأ أحداثها الأليمة وتمتد خلال قرنين من الزمان حتى تنتهي بالترحيل القسري الثاني، غالبوا فيها التعصب الصليبي بأقبح صوره:
(حيث محاكم التفتيش التي أقيمت خصيصا ً لمسلمي الأندلس لتحاكمهم بتهمٍ من عينة الاغتسال يوم الجمعة أو الطهي ليلتها أو دفن الميت وتغسيله على الهدي الإسلامي).
- وطوال أحداث الرواية يتعلقون ببريق أملٍ لم يتحقق أبدا ً بقرب انتصار العثمانيين وأهل المغرب العربي لهم.. بل وحتى الفرنسيين الذين كانوا أصدقاء العثمانيين آنئذٍ كانت الحياة السلسة تجري كشأنها منذ قرون حين نادي المنادي أن القشتاليين سيدخلون غرناطة غداً بعد معاهدة التسليم بين الملك أبو عبد الله والملكين النصرانيين.
- وجاء الجنود القشتاليون بأشكالهم وملابسهم الغريبة يحملون صليبا ً خشبيا ً ضخما ً ويعلقونه على بوابة المدينة، ورغم التعهدات الصارمة بالحفاظ على حرية المسلمين في معتقداتهم وعاداتهم لكن الأيام لم تلبث أن تأتيهم بما يكرهون:
"أصدر الملكان الكاثوليكيان أمرهما بالتنصير القسري لكافة الأهالي ونُشر المرسوم وأذيع في الناس، كان على أهل غرناطة والبيازين الاختيار بين التنصير أو الترحيل".
- كان الخيار صعبا ً بين عقيدة تغلغلت في القلب وارتسمت بها كل تفاصيل الحياة ربما على نحو لم يتوقعه أهل غرناطة فاختار بعضهم أن يجاهروا بالتنصر ويكتموا الإسلام وحسبوها حيلة ذكية... قالت مريمة:
"لا نرحل والله أعلم بما في القلوب، والقلب لا يسكن إلا جسده.. أعرف نفسي مريمة وهذه ابنتي رقية.. فهل يغير من الأمر كثيراً أن يحمّلني حكام البلد ورقة تشهد أن اسمي ماريا وأن اسمها آنّا؟!، لن أرحل لأن اللسان لا ينكر لغته، ولا الوجه ملامحه".
- هكذا ظنت ولكن.. هل يعقل أن يكون الحل بهذه السهولة؟! مع طغاة حرّقوا كتب العلم وأكرهوا أحد كبار علمائهم على إعلان تنصره بعدما حبسوه وعذبوه! لا..لا
- "لم يكن الأمر كما ظنت مريمة اسما ً على ورق يستبدل باسم، بل حياة كاملة صارت كل مفرداتها تهماً ومعاصي: طهور الصبية، عقد قرانهم على الشرع الواضح، زفهم على إيقاع الدفوف والأهازيج، استطلاع هلال رمضان والعيدين، الإنشاد في ليلة القدر، الصلاة والصيام، الاحتفاء بخميس الله وجمعته، تكفين الميت وتشييع جنازته بآيات الذكر، خضاب الحناء على أكف الصبايا ورؤوس النساء.. كلها تهم وباب السجن مفتوح للخطاة وأكوام الحطب مكوّمة تنتظر شعلة وتلتهب، وكأنما هي عجلة للشيطان ودارت والروح لا تلاحق دوراتها المرهقة".
- وحتى لو أعلنوا تنصرهم وتقبلوا قطرات التعميد بوجه باسم لا تزال يد المجرمين تلاحقهم:
"يحظر على المتنصرين الجدد ارتداء الملابس العربية، ويمنع أي خيّاط من حياكة الملابس المحظورة، وعلى النساء التخلص من غطاء الرأس".
- الآن نفهم دوافع جينات التعصب والكراهية التي نقحت عليهم في فرنسا والدانمرك وغيرهما هذه الأيام على رغم إقرار رئيس وزراء فرنسا بأن مريم العذراء كانت تغطي شعرها، وتتوالى اللقطات التسجيلية تحكي بدقة وصدق كيف أبيدت أمة بتهمة الإسلام وتبعثرت أشلاؤها على سواحل المغرب العربي.
- بل وأنحاء أمريكا الجنوبية كما كشفت الأيام منذ سنوات قليلة، أن نفس الملامح نعيشها ونرى أطرافا ً منها في فلسطين والعراق.. ولعل مسلمي الأندلس تنازعتهم نفس ما ينازع المسلمين اليوم من مشاعرٍ بين إيثار السلامة والعزيمة بمقاومة الغاصب.
هكذا ينقل لنا الحوار بين حسن بن أبي جعفر الوراق- ذلك الأبي الذي مات كمداً على كتبه المحروقة منذ السنين الأولى وعشنا بقية الملحمة بين ذراريه المتناثرة على أرض الأندلس، وبين سعد صبيّه وزوج ابنته سليمة وصديق حسن:
"ليس حرصا ً ما تفعله يا حسن ولو أغلق كلٌ منا بابه وقال سلامة أهلي لهلكنا جميعا ً، أقصد بشكل عام، نهائيا وإلى الأبد".
" لن أدافع عن نفسي، ليست خطيئة أن تحمي أهل بيتك ولو بالتحايل، تواصل الحياة لكي تضمن لهم لقمة العيش والستر بين جدران بين يضمهم، القشتاليون لا يرحمون وأنت تعرف وترى بأم عينيك كل يوم إذ تساورهم الشكوك في شخص، مجرد الشكوك يأخذونه ويحققون معه ويعذبونه .. وقد يحكمون عليه بالموت أو يموت من عذابهم قبل أن يحكموا عليه..".
ولم يرد على لسانه وربما لم يدر بخلده أن شقيقته مريم في نفس وقت هذا الحوار كانت تسام سوء العذاب وتحاكم بتهمتي الكفر والسحر.. ثم يحكم عليها بالموت حرقا ً لمجرد أنها تحتفظ ببعض الكتب وتعالج جاراتها وصغارهم بطب الأعشاب الذي يعرفه العرب منذ قرون.
ولكم تساءلت متعجباً كلما قرأت طرفاً من أخبارهم كيف لم يستشعروا الخطر قبل انهزامهم الأخير بسنين.. وكل ما حولهم يحكي النهاية القريبة القادمة.. فكم من الممالك سبقت غرناطة بالسقوط وعلى امتداد قرنين أو ثلاثة.. ثم كيف مرت بهم وبمسلمي المغرب والعثمانيين وهم يتابعون أخبارهم ولم يتفطنوا أنهم ذاهبون إلى المصير نفسه.
* وكيف لم ينصرهم الأتراك على قدرتهم وصداقتهم في نفس التوقيت مع الفرنسيين؟!
* المصيبة التي عرّفها الله بهذا الوصف في كتابه العزيز لم تخل عند أهل غرناطة من معاناة، يقول حسن حين ماتت أمه لأخته وامرأته والمغسّلة:- تدخلين أنت ومريمة وسليمة وتغسلنها على طريقتنا.
* ثم تلبسنها ثوبها المطرز، فأذهب لاستدعاء القس ليقرأ عليها ما يريد قراءته ويمضي، ثم أعلم أبا منصور والخلصاء من الجيران ونصلي عليها هنا في البيت، ثم نحملها ونخرج من الدار لنشيعها وندفنها على طريقتهم.
* ندفنها على طريقتهم؟!
* نعم ندفنها على طريقتهم.
* وتمضي الحياة بهم من ضيقٍ إلى ضيق ويأتيهم الترحيل الأول ويحمل علي بن هشام بن حسن بن أبي جعفر الوراق مفاتيح بيتهم الكبير وبقايا جدته العجوز مريمة ويرحل بها رغماً عنها لكنها تموت منه في الطريق قبل أن تفارق أرض الأندلس.. فيثور على ويقرر البقاء ويقتل حارساً ويأخذ فرسه ويغيب سنين في أطراف الأندلس ويبلغ الخمسين من العمر.
* ولا يزال في الأندلس قرى مسلمة تحرص على تعليم صغارها الفقه والقرآن واللغة العربية.. حتى يأتيهم الترحيل القسري الثاني ونترك عليا على الميناء وهو يتحدى قرار الترحيل للمرة الثانية.
* إنها ملحمة رائعة أهيب بك أن تسعى لقراءتها لأنها ستساعدك في تصور المأساة التي نعيشها بالحجم الطبيعي .
عودة الى كتب ودراسات
|