|
جيشنا بقلم د/ عبد الله السناوي
الحرب الجديدة فى سيناء تختلف عن كل مواجهات السلاح التي شهدتها على مدى أكثر من ستة عقود.
هذه المرة يواجه الجيش المصري حرب عصابات تضرب على مساحات واسعة قبل أن تختفي آثارها، تتوافر لها قدرات قتالية عالية التدريب ومصادر تمويل وتسليح متجددة وتستهدف نزع سيناء وإقامة إمارة فوقها تخضع لتنظيم الدولة «داعش».
على عكس أية حروب سابقة فإن الاستهداف يتعدى «الاحتلال» إلى «الانتزاع» و«الاعتداء» إلى تقويض الدولة كلها.
خسارة الثقة العامة تعنى بالضبط إفساح المجال للإرهاب فى أن يحقق أهدافه السياسية وإنهاء كل معنى له صلة بالحياة فى أمان وكل صلة بالعصر وقيمه.
بوضوح فإن استهداف الجيش فى ضباطه وجنوده إطلاق نيران مباشر على المستقبل والدماء التي سالت فى سيناء افتدت البلد كله.
ذات مرة قال الروائي الكبير «بهاء طاهر» كأنه يحادث نفسه قبل «يناير»: «يقولون الشعب المصري ضعيف، وهذا غير صحيح، غير صحيح إطلاقا، فقوته فى جيشه».
هذا المعنى مستقر فى الضمير العام من تراكم تاريخي طويل يستحيل حذفه، ورغم أية أخطاء جرت فإن الثقة عاودت تأكيد نفسها مرة بعد أخرى.
بالتعريف فالحرب الجديدة مع الإرهاب هي حرب الجيش والشعب معا، حرب الدولة والمجتمع على قدم المساواة.. وهذا كلام له استحقاقاته.
فالعمل السياسي لابد أن يتضافر على نحو وثيق مع العمل العسكري الأمني بما لا يدع مجالا لثغرات فى البناء الداخلي ينفذ منها الإرهاب.
فى كل مرة جرت مواجهات عسكرية فى سيناء كانت الجبهة الداخلية سؤالا رئيسيا وضاغطا وملحا، غير أن طبيعة الحرب الجديدة تتداخل فيها بصورة غير مسبوقة أوضاع الجبهة وأوضاع الداخل.
فى مواجهة السلاح الأولى عام (١٩٤٨) لم تكن الجبهة الداخلية موضوعا مباشرا فى الحرب إلا بقدر التعبئة العامة فى أوساط شباب هذا الجيل للتطوع للقتال فى فلسطين، وبأثر النكبة تغيرت معادلات السياسة جذريا فى مصر بإطاحة النظام الملكي عام (١٩٥٢).
وفى مواجهة السلاح الثانية عام (١٩٥٦) تدفق المتطوعون للقتال فى بورسعيد، وكانت تلك لحظة نادرة فى التاريخ الحديث كله لوحدة الإرادة المصرية فى مواجهة إمبراطوريتين «البريطانية» و«الفرنسية» وإسرائيل التي هزمتنا فى الحرب السابقة وأفضت النتائج السياسية لهذه الحرب إلى خروج مصر المستعمرة السابقة إلى المسارح الإقليمية والدولية كقوة ملهمة تقود حركات التحرير الوطني.
وفى مواجهة السلاح الثالثة ضُرب المشروع الناصري عام (١٩٦٧) من بين ثغرات نظامه غير أن المصريين انتفضوا يرفضون الهزيمة ويعرضون المقاومة.
باللحظة التي بدأت فيها إعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر على أسس احترافية ارتفعت دعوات طلابية عام (١٩٦٨) للشراكة السياسية فى صنع القرار، وبدأت مراجعة الأسباب التي أفضت إلى الهزيمة والحديث على نطاق واسع عن دولة المؤسسات والقانون والمجتمع المفتوح، حسبما تؤكد وثائق المرحلة.
وفى مواجهة السلاح الرابعة بين عامي (١٩٦٧) و(١٩٧٠) التي يطلق عليها «حرب الاستنزاف» استهدفت القوات الإسرائيلية بمدافعها المدنيين العزل فى مدن القناة وبطائراتها العمق المصري نفسه وارتكبت مجازر أبشعها استهداف أطفال مدرسة ابتدائية فى «بحر البقر»، وكان الهدف المباشر إرباك خطط إعادة بناء القوات المسلحة والنيل من الروح العامة ومحاولة تكريس روح الهزيمة.
لكل شيء ثمنه ولكل نصر تضحياته، وقد شهدت تلك الأيام بطولات حقيقية لضباط وجنود الجيش المصري، للمواطن العادي من أولاد الفلاحين، فتحت الأبواب واسعة لمواجهة السلاح الخامسة فى أكتوبر (١٩٧٣).
قبل المواجهة الخامسة كان الرأي العام مستعدا لتضحيات الدم ومعتقدا فى عدالة قضيته وسادت جيل الشباب وقتها دعوات استرداد الأراضي المحتلة بقوة السلاح والاستعداد للتطوع فى صفوف الجيش وأقيمت لهذا الغرض معسكرات تدريب.
اكتشفت مصر نفسها أمام وهج النيران وكشفت عن معدن شعبها.. وكانت جيشا وشعبا على قدر مسئولية الواجب الوطني.
فى كل مواجهات السلاح كان هناك دائما تطلع إلى اتساق ما يجرى فى الجبهة الداخلية مع ما يجرى على جبهة القتال من بذل دماء وتضحيات روح وانتقادات حادة لأوجه الخلل فى الأداء العام على ما عكست قبل أكتوبر أفلاما سينمائية كفيلم «العصفور» أو أعمالا مسرحية كـ«البعض يأكلونها والعة» التي ألهمت على مسارح جامعة القاهرة جيلا يستفزه فسادا يتوحش ولصوصا يتصدرون المشهد بينما هناك رجال على الجبهة يستشهدون فى صمت بلا أكاليل غار.
التضحيات تكتسب نبلها من وضوح قضيتها، والصراخ الإعلامي لا يشرح قضية ولا يلهم معنى.
الأبطال تتغير أسماؤهم لكن الوجوه واحدة واللصوص على ذات الحال من عصر إلى آخر ومن حرب إلى أخرى.
كما غضبت مصر على الذين يفتحون الثغرات لتفكيك الجبهة الداخلية فى وقت الحرب فإنها فى حاجة اليوم إلى الغضب نفسه.
أريد أن أقول بوضوح إن مواجهات السلاح الجديدة فى سيناء تستدعى حضور الرأي العام بأكثر من أية مواجهة سابقة.. فالرأي العام مستهدف فى ثقته بنفسه وثقته فى جيشه حيث يجب أن ترتفع معدلات الثقة العامة.
فى دول عربية عديدة تتعرض لهجمات إرهابية على أراضيها نزوع قوى لتأكيد الثقة فى جيوشها حتى تكاد أن تخترعها اختراعا، وهذا طبيعي فالجيوش سند للشرعية وبوتقة فى الوقت نفسه للانصهار الوطني.
وفى بلد مثل مصر فإن أحدا لا يخترع تاريخا، فقصة مصر كلها منذ تأسيس دولتها الحديثة على عهد «محمد على» تلخصها قصة جيشها، من فتوحات «إبراهيم باشا» إلى ثورة «أحمد عرابي» إلى ثورة «يوليو»، وقد بذل الجيش تضحيات هائلة باسم شعبه فى كل الحروب التي خاضها.. وبالمعايير العسكرية الدولية فهو واحد من أقوى ثلاثة عشر جيشا فى العالم.
سلامة الجيش من سلامة البلد كله، فالإرهاب يتمدد حيث تفشل الدول وتتفكك الجيوش، وأي كلام يخلط مالا يختلط ويسيء إلى جيشه وهو فى حرب معلنة قد تطول شراكة كاملة فى التحريض على الإرهاب.
دعم الجيش واجب وطني لكنه يتطلب أن تأخذ السياسة مداها فى توسيع الاصطفاف الوطني وسد أية ثغرات فى البنيان الداخلي ينفذ منها الإرهاب.
عودة الماضي بوجوهه وسياساته دعوة صريحة للإرهاب أن يتوحش ولليأس أن يتمدد فى أجيال جديدة ترى بعض وجوهها خلف قضبان السجون بينما الذين أطاحتهم ثورة يناير يعلنون عن وجودهم من جديد،
العودة نفسها بكل ما فيها من صلافة فيها استهتار بالدولة والثورة معا وتضفى شرعية تفتقدها بفداحة جماعة تعلن بياناتها الأخيرة على موقعها الرسمي عودة جهازها السري المسلح واعتماد العنف كخيار وحيد.
فى الإعلان ما يؤشر لتوسع أخطر فى ظاهرة العبوات الناسفة التي تستهدف الترويع العام، كأنها تستكمل ما تقوم به الجماعات التكفيرية فى سيناء من محاولات تقويض الدولة.
وهذا يستدعى حسما بالوسائل السياسية قبل العسكرية لنصرة جيشنا على الجبهة الأمامية ودعم الرجال فى حرب هي بطبيعتها قضية مصير وقضية مستقبل.
عودة الى مقالات
|