ابني الكريم/
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
وبعد...
إن الضغوط الاقتصادية والظروف المادية من الأسباب القهرية والصعبة التي عادة ما تتسبب في هجرة رب الأسرة.. وأحيانا هجرة الزوجان بحثا ً عن طريقة لسد العوز المادي الذي تعانى منه الأسرة.. والوصول بأفرادها إلى بر الأمان.
ويعتقد البعض للأسف بأن المال وحده هو بر الأمان للأسرة والأولاد دون النظر إلى ما قد يترتب عليه من فقدان أفراد الأسرة الحماية والرعاية والحنان والعطف والتواصل الإنساني.. الذي غالبا ً ما يحتاجه الأبناء بدرجة أكبر من حاجتهم للمادة.. ولكن قلما يفهم بعض الآباء ذلك عند حاجتهم للمادة.
ومن الجدير بالذكر أن الأسرة إذا كانت مبنية على مبادئ إسلامية صحيحة.. فإنه سوف تختلف تلك النظرة المادية.. وتتلاشى لتحل محلها نظرة عقلانية دينية متزنة تجمع بين المادة والروح .. والخبز والعاطفة .. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان .
وقوام هذه النظرة المتزنة يختلف عن النظرة المادية البحتة التي تضيع فيها المعاني والمبادئ.. بل والعواطف والمشاعر .. ويفقد فيها أفراد الأسرة الترابط والأمان اللذين لا يستطيعون تعويضهما بالمادة مهما توافرت.
وهنا يكون نتاج ذلك ما نطلق عليه ظاهرة التفكك الأسرى.. التي لم تعد نتيجة انفصال الزوج عن الزوجة فقط.. بل نتيجة هجرة أحد أفراد الأسرة أو أكثر لسد حاجة باقي الأفراد.. وهذا يعد انفصالا ً من نوع آخر أشد وأنكى من الانفصال الجسدي.. لأنه انفصال للروح والمشاعر والأحاسيس
الابن الكريم:-
ما من شك في أن ظروف الحياة الطاحنة في هذا العصر بالذات وفي ظل سياسات لا تهتم بتوفير الحياة الكريمة للمواطن في وطنه.
وقد تلجئ البعض لخيار السفر والهجرة للخارج سعيا ً لتحصيل الرزق الحلال والحياة الكريمة له ولأولاده.
وهذا في حد ذاته أمر مقبول.. ولكن من غير المقبول أبدا ً أن ينسى المسافر الهدف الأصيل الذي اضطر للهجرة من أجله.. ألا وهو توفير حياة كريمة آمنة مستقرة له ولأسرته.. وينشغل بالوسيلة وهي جمع المال.. ناسيا ً أو متناسيا ً الهدف الذي يجمع المال من أجله.
بل يكون من الواجب عليه في غربته حين يجد أن تحصيل المال صار مرادفا لفقدان الأسرة وتفككها وانهيارها أن يقف مع نفسه وقفة اختيار واضحة.. لا يرضى فيها بغير الأسرة والأبناء بديلا ً.
وإلا فما قيمة كنوز الدنيا بأسرها حينما يغادرها جامعها تاركا ً إياها إرثا لأولاد لم يعرفهم ولم يعرفوه.. ولم يحسن تربيتهم ليناله منهم دعوة ولد صالح في وقت يكون في أمس الحاجة لمثل تلك الدعوات.
الابن الغالي..
عادة ما يكون الأبناء هم الضحية لسفر الأب للخارج وبعده عنهم.. مما يتسبب في فقدانهم الرقابة والرعاية والحنان العاقل الحكيم الذي من المفترض أن يكون مصدره الأساسي والوحيد هو الأب.. ولا غنى أبدا ً عن الأب.
ولكن هنا في هذه المشكلة ما هو أفدح من ذلك.. وهو فقدان الأبناء لحنان وحضن الأم مع الأب .. وتركهم عند الأقارب وإمدادهم بالمادة فقط.. مع حرمانهم من كل المعاني والمشاعر والأحاسيس النبيلة .. التي لا يستطيع مال الدنيا أن يعوض طفلا ً بها عن حضن أمه.. أو حب وحكمة أبيه.
وهنا أرى أن هذا الأب وكذلك الأم قد ارتكبا جرما ً لا يغتفر.. ليس في حق أولادهما فقط.. بل في حق أنفسهما أيضا ً.
حتى أنهما قد ضاعت منهما المعاني والأحاسيس الحقيقية تجاه أبنائهم.. وأصبحوا كالجماد وافتقدوا لذة الحياة التي وهبها الله لكل أم وأب وهما يتابعان وليدهما.. وهو ينمو وتنمو معه كل المعاني والآمال الجميلة.
فها هو اليوم يحبو، وغدا يحاول السير ونساعده ، وبعدها ما أجملها أول خطوة وأول كلمة.. وتمر السنون ويلتحق بالمدرسة.. ثم ندعو.. يا رب نعيش ونراه في الكلية.. يا رب بلغنا زواجه.. بل يا رب نحمل أولاده .. وهكذا تتوالى الآمال وتتوالى سعادتنا بأبنائنا .
ألست معي أيها الابن الغالي أن أبواك قد خسرا الكثير بالبعد عنكم أنتم أيها الأبناء.. حتى ولو كان السبب هو محاولة توفير المادة التي كانت شغلهم الشاغل حتى ضاعت منهما السعادة وهما يلهثان وراء سراب.
ولا أعلم ما هي المحصلة النهائية لوالديك نتيجة الكد في سنوات الغربة.. وقد ضاعت منهما الغاية التي من أجلها يسعى ويغترب الكثيرون؟؟!
إنني أتعجب من أبوان تاهت منهما الغاية ولم يأبها لذلك.. واستمرا في غربتهما يكدحان دون هدف.
فما فائدة ما جمعاه من مال سوف يسألهما الله عنه يوم القيامة ؟؟!
وما فائدة الغربة والكدح وهما يفتقدان لمن يدعو لهما بالرحمة ؟؟!
ومن هي تلك الأم التي ماتت عندها غريزة الأمومة والإحساس حتى راحت تضحى بأمومتها لقاء حفنة من الأموال لا تغنيها عن أجمل شعور في الدنيا اختص الله به الأم دون غيرها .
إننا نرى هذا الشعور في الكائنات غير البشرية .. فما بالنا بالإنسان الذي كرمه الله على سائر المخلوقات .
عل كلماتي تلك يقرأها والديك حتى يشعرا بما فقداه في رحلتهما لتوفير المال.. والتي فقدا خلالها معاني الأبوة والأمومة والإحساس الحقيقي بالسعادة الذي لا تغنى عنه أموال الدنيا.. والذي لا يكمن في جمع المال فقط .
كذلك علهما وأمثالهما يعلمون بما قد يعده الله سبحانه وتعالى من جنة للأب الذي يربى ابنة ويحسن تربيتها ويزوجها .. وكذلك حث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الآباء على بث أولادهم الحنان في قوله:
"من قبل ولده كتب الله عز وجل حسنة.. ومن فرحه فرحه الله يوم القيامة "
وكذلك ما يفوز به الأب حين يقوم بتربية أبنائه على نهج الإسلام.. ليكون منهم الولد الصالح الذي يدعو له.. وهنا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .. صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"
والمقصود هنا بالولد الابن أو الابنة على حد سواء..
الابن الكريم..
أعجبني جدا قولك "ولا يمكننا الرد عليه خوفا ً من أن نفقد أعصابنا ونقع في ذنب يغضب الله ورسوله".
وزدت اعجابا بك عندما علمت من كلماتك أنك تبحث عن عمل بعد أن يئست من إنفاق والدك عليك وإخوتك.
ودعوت لك أن يوفقك الله لما يحبه ويرضاه.. ولكن عليك بالآتي:
أولا ً: محاولة توفير عمل يعينك وإخوتك على توفير احتياجاتك وإخوتك قدر المستطاع.. حتى تبدأ في محاولة لم شمل الأسرة واستعادة الوالدين دون أن يشعرا أنكم عائدون للبحث عن حضنهما الدافئ من أجل الحاجة للمال.. وبالتالي يحاولا الفكاك من استئناف العلاقة معك وإخوتك.
ثانيا ً: أن تقوم بالتودد لوالديك أنت وإخوتك في محاولة لبعث الروح مرة أخرى لعلاقة حميمة من أسمى العلاقات الإنسانية.. والتي فقدتموها جميعكم أثناء رحلة الوالدين لتوفير المال.
بل وتكرروا المحاولة دون يأس.. وليكن سبيلكم إلى ذلك البعد عن طلب المال الذي أصبح عند والديكما أقرب من أبنائهم الذين من أصلابهم.
وقد تكون وسيلتكم لذلك محاولة إهدائهم بعض الهدايا التي تستطيعون توفيرها حتى لا يقاوما اقترابكم منهم بسبب حبهم المرضى للمال.
ثالثا ً: عدم اللجوء المادي إليهم في الوقت الحالي على الأقل.. حتى لا يكون همهم لجمع المال سببا في إقصائكم عنهم مرة أخرى.. وتفشلوا حينذاك في لم الشمل.
رابعا ً: أن تكثر أنت وإخوتك من الاستغفار.. لما له من فضل ذكره الله في آياته الكريمة حيث قال:
"اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارا ًوَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات ٍوَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَار".
وكذلك لم تخل الأحاديث من ذكر فضل الاستغفار.. كما هو واضح من قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الشريف:
" من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ً.. ومن كل ضيق مخرجا .. ورزقه من حيث لا يحتسب"
وسوف يعينكم الاستغفار بإذن الله تعالى على القضاء على هذه القطيعة التي سببها المال.. وكذلك بدعائك لوالديك أن ينير الله بصيرتهما حتى يميزا بين الحق والباطل .. وتعود إليهما غريزة الأبوة والأمومة التي حرما منها وحرمتم منها أنت وإخوتك.
وأخيرا ً
أدعو الله عز وجل أن يبعث الحياة من جديد في قلبي والديك.. حتى يستطيعا الهناء بقربكم جميعا منهما .. وتستطيع أنت وإخوتك أن تهنأوا بشيء من الحب المفقود.. وكذلك بمواصلة مشوار الحياة معهما بأقل معاناة ممكنة.. اللهم آمين.
الثلاثاء الموافق
11-6-1431هـ
25-5-2010 |