ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
أخطأ والدك، رحمه الله، المنهج الصحيح فى تربيتكم بزرعه الرعب فى قلوبكم، وإهانتكم المستمرة بلا ذنب، وتفريقه بينكم فى المعاملة، وحسنا أنكم أدركتم ذلك، فجمعكم نقاء السريرة، وروح الود، واحتوتكم أمكم بما آتاها الله من الصبر والحكمة ونفاذ البصيرة.
برغم ما لاقته من متاعب وأهوال وصلت إلى حد طردها من المنزل، وإذا كان والدكم لم يدرك خطأه الجسيم تجاهكم حتى رحيله عن الدنيا، فإن على والدتكم أن تعيد النظر فى موقفها منكم، وتنفض عن نفسها شخصية الأب النكدي التى تتقمصها الآن. ظنا منها أنها الوسيلة المثلى للسيطرة على البيت والأبناء، وهى تفعل ذلك من منطلق أن الأبناء مهما كبروا فى السن، فإنهم يظلون فى نظر آبائهم وأمهاتهم كالأطفال الصغار من حيث التوجيه والسمع والطاعة، وهذه هى الفلسفة التى اتبعها أبوكم قاصدا بها التربية السليمة وليس الإيذاء كما تتصورون!.
وأسوق إلى والدتك هذه القصة الجميلة، عسى أن تستفيد منها، فى تعاملها معكم، وتتخلى عن الميراث البغيض من النكد الذى لا يعرف حدودا.. وهى تروى حكاية أب كبير فى السن، ويعيش مع أولاده بعد رحيل زوجته، وكان معروفا بقوته وهيبته، وعندما كبرت سنه أدركه الضعف.
ولم تعد له سيطرة على أبنائه الذين تزوجوا، وأنجبوا أولادا وبنات انتشروا حوله فى أرجاء المنزل، وراح يراقب تصرفات أبنائه تجاه أولادهم.. فأدرك فداحة ما ارتكبه فى حقهم، عندما وجد أن معاملتهم لهم تتسم بالود واللين والحوار، ويرشدونهم فى هدوء، ويبدون الملاحظات على تصرفاتهم بغير توبيخ ولا شتائم.
وعندئذ بعث إليهم برسالة قال فيها:
العادات تسوقنا غالبا إلى الخطأ، فلقد كنت شديد القسوة عليكم، ليس لأنى لا أحبكم، فأنتم أغلى من أنفاسي التى تشق صدري، ولكن العرف والعادات كانت تقول:
الأب القاسي هو الوحيد الذى يرى أبناءه يحققون النجاح، أما الأب الحنون، فهو فاشل يسوق أبناءه إلى الفشل، ولذلك نهجت نهج القوة، متوقعا أن ذلك أنفع لكم، وأفضل لتربيتكم، لكن الآن .
وبعد كل هذا العمر أجدني قد أخطأت، وأشعر أنكم تغرسون خناجركم الحادة فى صدري كل يوم، عندما أراكم تقبلون أبناءكم وتترفقون بهم، فو الله قلبي يتقطع ألما.. وأود أن أصيح وأقول لكم :
وأنا أيضا كنت ومازلت أحبكم، فلماذا عندما يقبل أحدكم ابنه ينظر إليّ نظرة كالخنجر المسلول ليطعن بها قلبي.. وكأنكم تقولون لي:
تعلم وافهم كيف ينبغي أن يتعامل الآباء مع الأبناء.. أولادي: ليس هذا زمننا، ولن يعود شئ فات أوانه، فلا تعلموا شيخا شيئا لم يعد ينفعه، وإني أطلب منكم العذر والسماح.
وتأثر الأولاد برسالة أبيهم أشد التأثر، وانخرطوا فى بكاء حار لأنهم أساءوا الظن به، وراحوا يقبلون رأسه ويديه وردوا عليه برسالة جماعية بأنه لولا الله ثم تربيته لهم، ما أصبحوا رجالا ناجحين، واحتضن الشيخ الكبير أبناءه وأحفاده وسيطرت عليهم دموع الفرحة بعودتهم إليه، وعودته إليهم بكل المشاعر الحلوة، والأحاسيس الجميلة، وما هى إلا أسابيع معدودة حتى فاضت روح هذا الأب العظيم إلى بارئها وقد ارتاحت نفسه، وأيقن أبناؤه الحقيقة الغائبة عنهم!.
فترفقوا يا سيدتي بوالدتكم، وتذكروا أفضالها عليكم حتى صار لكل منكم شأن كبير فى حياته وعمله وأسرته، وقربوا المسافات معها، واستجيبوا لما تطلبه منكم بغير تذمر أو تأفف.
فهي مطالب بسيطة لكنها تمثل بالنسبة لها شيئا ثمينا، وبمرور الوقت سوف تصلون معا إلى صيغة توافقية ترضى الجميع، فتشعر هى بالأمان والطمأنينة، وتصلون أنتم إلى الهدوء وراحة البال، وأرى أن الطريق نحو استعادتكم لها.. كما كانت دائما هو امتداحها والثناء عليها، والإقرار بفضلها، والتعامل معها بلين ورفق، وهى فى سن الجلال والاحترام، وأجدني أردد قول الشاعر خليل مطران:
نعمت الأم أنجبت خيرة الأولاد
للبر والتقوى والوفاء
فأنتم مدينون لها بما وصلتم إليه من نجاح، وتذكروا عطاءها لكم، وصنيعها من أجلكم على مر السنين، وتحمّلوها فى كبرها، يهيئ الله لكم من أمركم رشدا، ويثيبكم من فضله وكرمه بعيدا عن ميراث النكد الذى يسيطر على تفكيركم، وادعوا الله لأبيكم بالرحمة والمغفرة.
ويا حبذا لو اجتمعتم يوما كل أسبوع مع أمكم فتعترفون بفضلها عليكم، وتسترجعون مواقفها الجميلة فى صغركم، فتشعر بالراحة وتطمئن إلى أنها محفورة فى قلوبكم فتزداد اطمئنانا، وتعم السعادة على الجميع والله المستعان.
|