|
أحداث سويسرا.. وتآكل الديمقراطية الغربية بقلم أ/ خلف عبد الرءوف
صوت الشعب السويسري الأحد الماضي 2911 2009 على تعديل المادة 27 من الدستور السويسري والتي تنظم علاقة الدولة بالأديان.. بإضافة عبارة "ويحظر بناء المآذن".
دعوة اليمين المتطرف
بدأت الفكرة بمبادرة تقدم بها وتبناها حزبان من أحزاب اليمين المتطرف بسويسرا، هما حزبا ً الشعب السويسري (يمين متشدد).. والاتحاد الديمقراطي الفيدرالي (يمين مسيحي) بإجراء هذا التعديل الدستوري.
وقد رفضت الحكومة والبرلمان السويسريين المبادرة، فيما اعتبرتها الأوساط السياسية والحقوقية السويسرية والأوروبية، تمييزا ً ضد المسلمين وقيد على الحرية الدينية وردة عن قيم التسامح التي تتميز بها التقاليد السويسرية.
وقد أبدى والتر ميلر كبير أساقفة سويسرا رفضه المبادرة.. معتبرا ً إياها عقبة في سبيل حوار الأديان.
فيما أعرب مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عن قلقه إزاء المبادرة وما تمثله من انتهاك للحرية الدينية.
ووفقا ً للنظام الدستوري في سويسرا فقد تم طرح المبادرة للاستفتاء الشعبي، ليقول الشعب كلمته بالموافقة على التعديل الدستوري المقترح من عدمه.
الرهان الخاسر
وقد سبق الاستفتاء الرسمي استطلاع للرأي أجرته بعض المؤسسات المتخصصة أشارت نتائجه إلى رفض الأغلبية من السويسريين للمبادرة بنسبة 53% بينما قبلها 37% ولم يحدد10% موقفهم من المبادرة.
أثارت هذه النتائج شعورا ً بالارتياح لدى المسلمين وكذلك النخب السياسية والمنظمات الحقوقية في سويسرا وأوروبا بصفة عامة.
وبذل المسلمون ورؤساء المنظمات الإسلامية بسويسرا جهودا ً كبيرة لمواجهة الدعايات المناهضة للإسلام التي أطلقها اليمين المتطرف للترويج لمبادرته.
وفتحت المساجد السويسرية أبوابها لغير المسلمين فيما سمى باليوم المفتوح للرد على تساؤلات السويسريين حول الإسلام.
وذلك ضمن جهود أخرى عديدة قامت بها جهات إسلامية وغير إسلامية لإزالة هاجس الخوف أو ما يسمى "بالإسلاموفوبيا" لتفويت الفرصة على اليمين المتطرف، الذي راح يزكى مشاعر الخوف والعداء للإسلام بالترويج لفكرة أن المآذن خطوة على طريق أسلمة المجتمع السويسري وفرض أحكام الشريعة الإسلامية، وتشويه وتذويب الهوية السويسرية بثقافتها المسيحية اليهودية.. رغم أن اليهود أقلية داخل المجتمع السويسري.
راهن الجميع على الشعب السويسري وتصوروا أنه سيحسم المعركة لصالح الانتصار لقيم التسامح والحرية الدينية وحقوق الإنسان.. خاصة مع المؤشرات الإيجابية التي أسفرت عنها استطلاعات الرأي.
ولكن جاءت نتائج التصويت الشعبي مخيبة للآمال إذ صوتت الغالبية لصالح المبادرة بأغلبية 57.4 %.. مما كان له أثر الصدمة على المسلمين والنخب السياسية والأوساط الحقوقية.
الإسلام وليس المآذن
وضعت نتائج الاستفتاء الجميع أمام مأزق حقيقي ونذر أزمة سياسية واجتماعية ليس في سويسرا وحدها بل في أوروبا بصفة عامة.. مع تنامي مشاعر الكراهية والتمييز ضد المسلمين في أوروبا بصفة عامة، مما يعطى مؤشرات واضحة الدلالة على أن حظر بناء المآذن لن يكون آخر مظاهر التمييز والاضطهاد الديني والعرقي ضد مسلمي أوروبا.. ولكنه مقدمة لما هو أسوأ.
خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن المشكلة الحقيقية ليست في إقامة المآذن أو حظرها.. ولكن في الباعث على إثارة القضية وهو أن قطاعا ً كبيرا ً من الشعوب الأوروبية يرفض الوجود الإسلامي هناك.. ولا يقبل أن تكون الثقافة والهوية الإسلامية أحد مفردات التكوين الاجتماعي في أوروبا، مهما كان حجم البعد الإسلامي في ضآلته وأيا ما كانت المساحة التي يشملها أفقه.
في حين تعتبر اليهودية مثلا ً ـ رغم أنها تمثل أقلية داخل المجتمعات الأوروبية تقل في عدد معتنقيها عن الأقلية الإسلامية في كثير من الأحيان ـ جزءً من الهوية والتكوين الثقافي الأوروبي.
حسبك أن تعلم أنه من بين 210 مسجدا ً ومؤسسة وجمعية إسلامية سويسرية، لا توجد سوى أربعة مساجد فقط هي التي يرتفع فوق بنائها مئذنة.. وليس أذانا ً لأن الأذان محظور أصلا ً في سويسرا.. للإشارة إلى أن هذا المكان معد للصلاة ليتعرف عليه المسلمون خاصة في ظل القوانين التي تحظر الأذان.
نعم أربعة مآذن فقط لا يزيد طول الواحدة منها على مترين، بينما هي محاطة بأبنية وعمائر مكونة من ستة وسبعة طوابق تكاد توارى المئذنة تماما ً موزعة على كامل الأراضي السويسرية، فكل الطلبات التي قدمت في السنوات الأخيرة لبناء مآذن ووجهت بالرفض من قبل الحكومة.
هذه المآذن الأربع هي التي أثارت كل هذا الضجيج واللغط والخوف من ضياع الهوية السويسرية المسيحية واندثارها تحت ركام المد الإسلامي.
في حين يمثل المسلمون وعددهم 400.000 ، 5% من عدد السكان البالغ 8 مليون نسمة والمسلمون السويسريون هم أوروبيون في مجملهم، غالبيتهم من دول البلقان " البوسنة ـ كوسوفو ـ ألبانيا " ومن بينهم 37 ألف من الأتراك ، بينما يمثل ذوى الأصول العربية 6% فقط من المسلمين هناك.
إلى هذا المدى ترسخت الكراهية والعنصرية ضد المسلمين في أوروبا.. وعلى مستوى شعبي ينذر بمخاطر وخيمة خاصة مع تنامي المد الشعبي لليمين المتطرف.. مما يجعل النظام الديمقراطي نفسه كمنظومة حكم وكآليات في حاجة إلى إعادة تنظير وتأطير ومراجعة لآلياته.
الحدث له مدلولات وأبعاد كثيرة تحتاج إلى دراسات مطولة لتحليلها واستقصائها.
ولكنني هنا سأتناول أحد مدلولات هذا الحدث وهو قصور النظام الديمقراطي كنظام حكم يقوم في أساسه على حكم الشعب.. أو بمعنى أدق حكم الأغلبية.. إذ أن تحقق الإجماع الشعبي غير ممكن عادة.. مع عدم وجود ثوابت أو محرمات بعيدة عن متناول صناديق الاقتراع.
فالدستور نفسه الذي يعد أبو القوانين ويشتمل على المبادئ العامة والمقومات الأساسية للمجتمع، هو نفسه عرضة للتغيير والتبديل حسب الأهواء.
تقاطع المبادئ وتآكل النظام الديمقراطى
لقد فشل النظام الديمقراطي بآلياته التقليدية في الحالة السويسرية في الحفاظ على حقوق الأقلية المسلمة هناك وحدث الاشتباك والتقاطع بين مبادئ نظام الحكم العلماني الديمقراطي، مبدأ حكم الأغلبية في مواجهة مبدأ ضمانة الحقوق والحريات العامة للمواطنين، ومبدأ التعددية، ومبدأ حيادية الدولة إزاء التعامل مع الأديان.
فبالرغم من التسامح الذي تبديه العلمانية تجاه الأديان الأخرى على ما فيها من هرطقات وأساطير.. بل ربما بسبب ما فيها من هرطقات وأساطير تجعلها ضربا ً من ضروب الشطط لا تلبث أن تذوب وتتلاشى، إلا أن هذه العلمانية لا تتعامل بهذا القدر من التسامح تجاه الإسلام.
والسبب أن العلمانية في حقيقتها لا تقوم لها قائمة إلا على أنقاض الدين كل الدين.
وما يقال عن الحيادية التي تضمن عدم تدخل الدولة في شؤون الأديان هو نوع من الأساطير والخرافة يدندن بها العالمون لترويج بضاعتهم.. ويرددها خلفهم السذج الذين لا يعلمون ما هي العلمانية وتخدعهم أقنعتها الزائفة.
وما يبدوا من تسامح علماني أوروبي نحو المسيحية سببه أن المسيحية الأوروبية قد فرغت تماما ً من محتواها.. ولم يبق منها سوى هياكل عاطلة عن أي مضمون يمكن أن يشكل نوعا ً من الفكر المضاد أو الموازى للعلمانية.
فأوروبا اليوم لا تدين بالمسيحية اللهم إلا من تبقى من رجال الدين وقلة لا تذكر من الأفراد، أما دين أوروبا الأول الآن فهو الإلحاد.
الإسلام وحده هو الذي يمثل التنوع الأيديولوجي الحقيقي والوحيد داخل المجتمعات الأوروبية، لذلك فهو مرفوض من قبل الغالبية العلمانية لأنها في حقيقتها ترفض التعددية والتنوع وإن تظاهرت بغير ذلك.
لقد بدت الديمقراطية السويسرية متوحشة في مواجهة الأقلية المسلمة، وتحولت صناديق الاقتراع فيها التي تعد مفخرة النظم الديمقراطية وعنوان حضارتها ورمز الحرية فيها إلى تابوت تدفن فيه حقوق الأقلية المسلمة، ولغم ينسف الحريات الدينية.
فإذا كان الواجب على الأقلية أن تحترم رغبة الأغلبية، فما هي الضمانات التي يكفل بها النظام الديمقراطي حقوق الأقليات؟
الإجابة.. لا شيء سوى الضمير العام للأغلبية وثقافة التسامح.
ولا تقدم الديمقراطية أي ضمانات أخرى يمكن أن تكبح بها جماح الأغلبية المتعصبة العنصرية، مما جعل المبادئ الديمقراطية يأكل بعضها بعضا ليس بسبب خلل التطبيق وحسب.. ولكن لعيوب في النظرية ذاتها.
فالبرلمان الذي يمثل الشعب والحكومة المنتخبة والنخب السياسية والمنظمات الحقوقية وكل مؤسسات المجتمع المدني التي رفضت مبادرة اليمين المتطرف متمثلا ً في حزبين صغيرين، كل هؤلاء في ظل النظام الديمقراطي لا يوزنون بما أسفر عنه صندوق الاقتراع.
بل مطلوب منهم الاعتراف بنتائجه والسهر على تنفيذها بحزم وصرامة، ولتذهب الحريات والحقوق إلى الجحيم.
لقد سوقت لنا العلمانية بضاعتها على أنها النظام الأمثل لضمان الحقوق والحريات، ولم يقولوا لنا أنها رهن بموافقة الأغلبية.. بل أوهمونا بأن حقوق الإنسان وحرياته العامة هي الثوابت التي تقوم عليها النظم الديمقراطية.
وقد أسفر هذا الزعم عن سراب عند أول محك حقيقي.. وبدت الحريات وقيم الليبرالية كالثور المعصوب العينين يدور في فلك واحد ولا يرى أو يعترف بما سواه.
هذا هو الفارق الكبير والجوهري بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية، ألا وهو الثوابت التي تضمنها قدسية النص والتشريع الرباني فتكون بمثابة المحرمات والقواعد التي لا يحل للأمة مجتمعة فضلا عن الأغلبية الاقتراب منها أو العبث بها تحت أي دعوى.
وفيما عدا ذلك فمتروك لاجتهادات ذوى الاجتهاد ومشورة أهل المشورة.
وما لم تراجع النظم الديمقراطية نظريتها من الأساس لخلق نوع من التوازن والتناغم بين مبادئها.. فسوف تأكل قيمها بعضها بعضا.. وسوف يتحول مبدأ حكم الأغلبية إلى الوحش الذي يبتلع كل القيم والمبادئ والثوابت الأخلاقية والإنسانية لتنقلب الديمقراطية إلى ديكتاتورية الأغلبية.
عودة الى قضايا معاصرة
|