|
يوميات مواطن عادي (152) عندما يأتي المساء.. استعاده لليلة خالدة بقلم أ/ صلاح إبراهيم
كان مساء يوم السبت 6 أكتوبر من الأمسيات التي لا تنسى أبداً مهما تقادم الزمن.. فقد ذقنا طعم النصر لأول مرة.. إذ كنا نعسكر على الضفة الشرقية لقناة السويس في سيناء الحبيبة وقد هرب العدو أو قتل أو أسر.. وكان علينا أن ننتظر رد فعل العدو الطائش.
كان علينا أولا ً أن نتزود بالطعام والماء فطوال اليوم لم نتناول إلا وجبة الضحى.. والتي اعتبرت إفطارا ًوغداء في ذات الوقت.. وأنسانا العمل ومفاجأته كل شيء.
أقبلنا على الطعام في نهم شديد.. ثم حمدنا الله وشكرنا أنعمه.. وقد حان وقت العشاء وتردد صدى الآذان في كل مكان.. فصلينا المغرب والعشاء جمع تأخير.. وكنا قد صلينا العصر فرادي بعد أن تيممنا من الصعيد الطاهر.
طبقنا في صلاتي المغرب والعشاء كل الرخص التي أتاحتها الشريعة الغراء من تيمم وصلاة الخوف والقصر.. وساد الجميع شعور من النشوة والخدر اللذيذ.
كان علينا أن نقطف ثمار ست سنوات من الصبر والصدق مع الله ومع النفس والعمل الدءوب في إنشاء جيش جديد من جميع المناحي.. سواء إعداد مقاتلين متدربين متفرغين للقوات المسلحة فقط.. وضباط على أعلى درجة من التضحية.. والاستعداد إلى مدفعية مدربة على الرمي والإصابة إلى طائرات "لعب فيها العقل المصري لعبة الذكاء".. فأصبحت تطير على ارتفاعات منخفضة لدرجة أذهلت العدو وفاجأته مفاجئة تامة.
كان الوضع بين اليوم وقبل الهزيمة العجيبة في عام 1967على النقيض تماماً.. فبينما كانت القيادة السياسية قبل النكسة تستعرض عضلات وهمية ساهمت كل المغامرات الطائشة في القضاء عليها.
كنا نحصد ثمار تعقل القيادة السياسية وخداعها الرهيب للعدو والقريب.. حيث أبدت الضعف واللين.. واخفت الأنياب الرهيبة التي أعدتها لافتراس العدو في حالة إن افقده الغرور وعيه ولم يستجب لنداء السلام.
كان الوضع قبل 1967 لا يبشر بالخير للناظر المنصف.. فقد تم تخفيض الميزانية الخاصة بالقوات المسلحة نتيجة ما أصاب الاقتصاد المصري من انكماش.. في وقت كنا نخوض حربا ً ضروسا ً في "اليمن السعيد".
وانعكس ذلك على نقص التسليح والهبوط بالوضع العسكري العام.. وإيقاف الاعتماد المخصص لتجهيز مسرح العمليات في سيناء.. وإلغاء جميع مشروعات إنشاء الطرق والمواصلات.. والملاجئ اللازمة لخط الدفاع الثاني والأول الأمامي بيننا وبين العدو.. وتوقف استكمال سلسلة دفاعات النسق الأول.. وتوقف إنشاء المطارات السرية وكذا تزويد المطارات القديمة بالدشم.. وكانت هذه المطارات معروفة للعدو كـ "أصابع يده".
وتم إلغاء جميع الاعتمادات التي كانت قد رصدت لإصلاح السفن الحربية من فرقاطات ومدمرات وغواصات.. وحتى اعتمادات الصيانة لهذه القطع البحرية الهامة قد تم تقليصها إلي أقصى درجة.
وكانت الميزانية الخاصة بالقوات المسلحة الموجودة في سيناء لا تكفي إلا لمرتبات الجنود والضباط فقط.. وكانت معظم الأسلحة الموجودة من التي "أعطبت" في جبال الجوف وصعدة باليمن.. وأجريت لها عمليات صيانة أشبه بـ "التلصيم" على حد قول عوام المصريين.
وكان الضباط في شتات جسدي ونفسي بين "سيناء" و"الهايكستب" و"اليمن" بدون قواعد معروفة.. ولم ينظر بعين العناية إلي القطاع الجنوبي ولا الغربي من الوطن الحبيب.. حتى سار هذا الجيش البائس إلي مصيره المحتوم ووقع في الفخ المنصوب جيدا ً.. وكان يوم 5 يونيو محصلة بائسة لهذه الظروف مجتمعة.
إلا أن المهانة التي شعر كل عضو بها في هذه المؤسسة العريقة عجلت بهذا النصر.. إذ قل أن تنجح قوات مهزومة لدرجة التدمير أن تسترد وعيها في هذه الفترة البسيطة.. لتخوض حربا ً شاملة ضد عدو منتصر ويملك موانع طبيعية وموانع صناعية وأسلحة على أعلى مستوى .. بل ويخوض هذه الحرب في وضح النهار.
استمعنا في نشوة إلي الإذاعات وهي تصف ما حدث في موقع الجباسات بالتفصيل
كان الجنود قد وصلوا إلي الشاطئ الشرقي.. وتحت ستار من الدخان قاموا بمهاجمة الحصن الإسرائيلي بالدانات والقنابل.. ونسفوا المدخل الشرقي.. وأصبحوا على بعد 50 قدما ً من العدو.. ثم أغلقوا الممرات التي تؤدي إلي مداخل الخنادق الأرضية بقاذفات اللهب والقنابل اليدوية.
وفي خلال نصف ساعة قام زملاؤهم بنقل ثلاث دبابات إلي موقع القتال.. وقامت إحداها بشق طريقها بقوة.. وأطلقت مدافعها وهي مصوبة وسط الهدف .. بينما أغلقت الأخريات الطريق أمام قوات النجدة الإسرائيلية.. بافتراض أن هناك من سيتدخل لإنقاذ الموقع.. ولكن لم يحدث تدخل بحمد الله .
وكان هذا الموقع المحصن من أكثر المواقع تحصينا ً وكثافة في عدد القوات والمعدات الموجودة.. ولكنه كان أول الساقطين بحمد الله تعالى .
وكانت النتيجة كما ذكرت وكالات الأنباء سقوط الموقع واستسلام 17 إسرائيليا ً وقتل 15.. وهروب الباقين في أول ساعات الحرب.
كما ذكرت وكالات الأنباء نجاح عبور المئات من الدبابات الثقيلة المصرية من طراز "تي 54 و55" إلي الشرق على المعابر الأحد عشر.. والتي أنشئت بنجاح تام ولم يستغرق أنشاؤها أكثر من ساعتين.. وتم بعضها في ساعة واحدة.. بينما المعدل الطبيعي لها ست ساعات في كل المعدلات العالمية.
كان معظم دبابات النسق الثاني والذي كان يبعد 72كم عن الجبهة قد نقلت ليلا على جرارات خاصة من طرازي "ماز"و "كيراز" لتستوي على شاطئ القناة الغربي.. وتعبر القناة على كباري العبور المتحركة.. في نظام بديع لتأخذ مواقعها شرق القناة.
وكان علينا الاستماع إلى الإذاعة الإسرائيلية والتي أصابها ما كان قد أصابنا في عام 1967.. إذ أنكر المتحدث العسكري وجود أي قوات مصرية على الضفة الشرقية.
مما جعل أحمد سليمان يسبه قائلا ً: "آمال أحنا فين يا ابن الكدابه؟!!".. بينما يقهقه باقي الجنود.
ولكن ديان عاد ليصرح بأن المصريين وإن كانوا قد استولوا على بعض المواقع إلا أنه يجرى طردهم منها.
ولم يفارقه غروره حيث قال:
"سنضربهم على مؤخرتهم".
وكان بذلك يخفي رعباً شديداً كما ذكرت الوثائق التي أفرج عنها مؤخراً.
وقال وزير الخارجية الإسرائيلي وقتها:
"لقد ارتكب المصريون والسوريون (بيرل هاربر) جديدة".
في إشارة للهجوم الياباني على الأسطول الأمريكي.. ونتائج ذلك.
ولكن كل ذلك لم يغير من الواقع شيئا ً.. حيث انتشرت على أرض سيناء جثث القتلى الإسرائيليين وخوذاتهم ومهماتهم وأحذيتهم.. في مشهد بـ"الكربون" لما حدث للمصرين منذ ست سنوات.. و"كما تدين تدان".
وكان الجنود المصريون مشغولون بتعزيز مواقعهم.. وتنظيف معداتهم وأسلحتهم والتسبيح والغناء وسماع الإذاعات.. وتوقع وانتظار الهجوم الكاسح لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي كما قال ديان.
وكان "طويل العمر" يصدقه.. لأن الأسطورة التي كانت في خياله عن جيش إسرائيل لازالت تحتل جزءً من عقله الباطن.
والواقع أن إسرائيل كانت قد استدعت الاحتياط عن طريق شفرة إذاعية خاصة.. وقامت سيارات خاصة بجمع جنود الاحتياط من الشوارع والميادين والمستوطنات.
وفعلت مصر مثل ذلك يوم السبت 6 أكتوبر.. حيث جمعت الجنود الذين تم تسريحهم في دفعة شهر يوليو 73 كنوع من أنواع الخداع الإستراتيجي.. وكان هؤلاء الجنود بيننا يوم 7 ويوم 8 أكتوبر 1973 والحمد لله.
وعاد ديان الذي كان يقول قبل أربعة أيام: بـ "تشغيل القناة بالقوة لصالح إسرائيل إذا لم توافق مصر علي حصة النصف".
عاد ليقول أنه من الصعب الدفاع عن مواقع بطول 162كم.. وأنه كان يتعجب كيف أن المصريين لم يقوموا طوال الوقت الكبير الماضي بالاستيلاء علي بعض نقاطه؟!!!
مما مثل للجميع فقدان الرجل لتوازنه ومعه جميع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي ظنوا أنها لا تقهر.
وذكرت الوثائق بعد ذلك أنه "فقد توازنه.. وطالب بانسحاب إسرائيل إلي حدود 48 والصلح الفوري مع العرب".
بينما أبدت الست جولدا "صلابة فائقة".
وزع "النقيب/ فتحي العبد" الحراسات بطريقة دقيقة.. وترك دبابتين لحراسة رأس الجسر.. مع تسليح متنوع من "الميم – د" و"R.B.J" والرشاش الخفيف.. وكانت تحرسه دبابة ثقيلة أيضا ً وبعض جنود الصاعقة.
كما استدعي الرماة وأمرهم بخلع مدافعهم من الدبابات.. والمرابطة بها مع جنود المشاة فوق التل لتعزيز الدفاع.
كان "علي الفوى" ومعه "شديد" قد قاما بالسطو علي المواقع الإسرائيلية المهجورة وأخذوا معهم "السويسي والبدوي" ، وأحضروا كميات هائلة من التفاح الأمريكاني، والمربات الفاخرة، ومعاجين الأسنان.. وأنواع عجيبة من الجبن، ومعلبات اللحوم، والأسماك والخبز الطازج.. والأسلحة الخفيفة وذخائرها.. والكثير من المتعلقات الخاصة بالجنود الفارين.
لا أدري كيف تمكن هذا الرجل العجيب من اقتحام هذه المواقع في الإضاءة الخافتة لقمر بدأ في الظهور وإضاءة سماء المعركة.. وتوقع الجميع أن يكون هناك كمينا ً ما بهذه التحصينات.
كاد ما أحضره يحول الأمر لفوضى عارمة أعادت للأذهان ما كانت تفعله الغنائم في الجيوش العربية من نسيان للروح العسكرية والانضباط المطلوب .. مما شكل كوارث تاريخية ما زالت حية في الذاكرة الجمعية للأمة الإسلامية حتي الآن.. وستظل كذلك.
ولكن الحب الذي جمع بين الجميع ساعد على أن يتمتع الجميع بهذا الخير العميم من هذه الأصناف التي لم نرها من قبل.. وكان تناولها من قبيل الأحلام .
وخاف "النقيب/ فتحي العبد" أن يقلد الجميع "الفوي" تحت إغراء الطعم الجيد لهذه الأصناف.. فأصدر أمرا ً عسكريا ً بمنع أي جندي من مغادرة الموقع إلا بأوامر صريحة.. وإلا وقع تحت طائلة المحاكمة العسكرية.
وللحديث بقية إن شاء الله
السبت الموافق:
7/12/1431هـ
13/11/2010م
| الإسم | بخيت خليفة |
| عنوان التعليق | أطال الله عمر أيامك |
| تحياتي لك يا عم صلاح وكل عام وأنتم بخير وعزة ونصر وكرامة ويقين ، تقبل الله منا ومنكم وأطال عمر أيامك الجميلة ويومياتك الممتعة |
عودة الى قضايا معاصرة
|