|
مصر الغنيمة السياسية.. ومصر الشراكة الوطنية بقلم/ معتز بالله عبد الفتاح
في وقت تسليم أعضاء الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور مشروع الدستور للدكتور محمد مرسى كنت مع أحد أصدقائي وأسرته فسألوني:
أليس من المفروض أن تكون معهم اﻵن؟
فقلت:
نعم.. لكنني لن أذهب احتجاجاً على أن الرئيس لن يقوم بالدعوة لحوار وطني لخلق توافق حول الدستور.. وإنما سيقوم بالدعوة للاستفتاء عليه مباشرة عكس ما وعد به.
وتوقعت كما توقع غيري أن يُحدث ذلك شرخاً كبيراً في الطبقة السياسية المصرية وعند الرأي العام.. بل سيعكس أزمة مصداقية حادة عند الجماهير ﻻسيما بعد الإعلان الدستوري السابق على الدستور.. وكتبت آنذاك مقاﻻً احتجاجياً على الدكتور مرسى بعنوان: "الحكم حين يفقد مصداقيته."
لكن اﻷهم عندي هو الحوار الذي دار بيني وبين أحد المسئولين الكبار في رئاسة الجمهورية بشأن أهمية أن يعلن الرئيس عن دعوة أعضاء الجمعية المنسحبين للقاء معه حول المواد الخلافية أو تشكيل لجنة قضائية محايدة تقوم برد المواد الخلافية إلى أصلها في دساتير مصر السابقة أو إلغائها لكن الرد المفجع هو:
يا فلان أنت تعلم أن الدستور يكتبه المنتصر ونحن انتصرنا والشعب قال كلمته.. وكانت اﻹشارة لدساتير مصر السابقة واضحة. . وهيهات أن يجادل العبد الفقير لتوضيح أن هذه سكة الهلاك وإعادة إنتاج الاستبداد وأنه ليس من الحكمة أن يظن أي طرف أنه يملك منفردا الحق في تقرير مصير البلاد.
سامحوني على العودة إلى هذه القصة اﻵن.. ولكنها مهمة في التحذير من أن تخرج تعديلات الدستور الجديد وكأنها تعبر عن منطق أن الدستور يكتبه المنتصر لا نريد أن يحكمنا منطق أن مصر غنيمة.. نريد أن نرتقي إلى مصر التي تعبر عن شراكة وطنية بين الجميع.
مجتمعنا منقسم أيديولوجيا، وانقسامه حاد بسبب فترات الاستبداد التي تشكل بيئة خصبة لمناخ التشدد والاستقطاب والإقصاء والتصعيد والوصاية لذا أخذت دول كثيرة تمر بمثل ظروفنا فترات طويلة كي تكتب دستورها.
لأن قواها السياسية متحزبة بتشدد واستقطاب وإقصاء وتصعيد ووصاية قبل أن تتفق على قواعد العمل العام التي ستحكم الأحزاب وتحدد منطلقات الدستور الجديد وكأن كل حزب أو تيار أو أيديولوجية تصنع أو تستورد قطارات بمقاسات مختلفة وخصائص متفاوتة قبل أن تتفق على خصائص القضبان التي ستسير عليها هذه القطارات.
هناك من يشترى القطارات وبفضيلة السبق، يريد أن يجبر الجميع على مقاسات القضبان التي تناسبه هو وليس بالضرورة ما يناسب كل الوطن.. هناك من يريد أن يخطط الملعب بما يتسق مع مصالحه وأولوياته هو وليست أولويات الوطن.
هذه المجتمعات الخارجة حديثاً من ضيق الاستبداد إلى آفاق الحرية تواجه معضلة لم تخترها لنفسها وهى معضلة التضارب في الترتيب الزمني.. فهي مطالبة بأن تتوافق على القواعد قبل أن تتحزب.. لكنها بالفعل متحزبة حتى قبل زوال الحكم الاستبدادي.
لكنه كان تحزباً مكبوتاً وحين يسمح له بالظهور يكون بالفعل قد بلغ مدى يصعب السيطرة عليه إلا بوجود بعض العقلاء في كل حزب أو تيار يسعون لأن يكونوا الجسور التي يمكن من خلالها لأبناء الوطن من أصحاب التيارات المختلفة أن يتواصلوا من خلاله.
إذن علينا أن نتفق رغماً عن انقسامنا مثلاً:
الآباء المؤسسون للولايات المتحدة اجتمعوا واتفقوا على قواعد الدولة وعلاقاتها بالمجتمع وكتبوها في إعلان الاستقلال ثم في الدستور ثم في التعديلات العشرة الأولى من الدستور التي أقروها بعد ستة أشهر من التصديق على الدستور.
كل هذا قبل أن ينقسموا حزبيا وبالتالي جاءت الأحزاب لتتسق مع الحد الأدنى من التوافق السياسي والمجتمعي الذي اتفق عليه الجميع قبل أن تتكون الأحزاب.. وقبل أن يعرفوا من سيكون الأغلبية ومن سيكون في الأقلية من سيكون في الحكم ومن سيكون خارجه.
كتبت في مارس 2012 أنه من المهم أن نعرف أن حصول حزب ما على الأغلبية في انتخابات برلمانية أو رئاسية لا يعنى أنه سيضع منفردا أو ربما بالتفاوض مع المقربين منه فكرياً أو مصلحياً قواعد العمل العام في مصر لأن معه الأغلبية.. وهذه الطريقة في التفكير تعنى أن بعضنا يسيء من حيث ينبغي أن يحسن ويتحزب منقسماً قبل أن يتشارك متفقاً على قواعد العمل العام الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها.. ولا يجوز التسامح مع تجاهلها.
وبعد أن تستقر هذه القواعد الآمرة في ضميرنا يعرف كل منا حدود الممكن والمتاح ومساحات المرفوض وغير المقبول.
قبل أن ننزل إلى ساحة المباراة لا بد أن نتفق على قواعدها المجردة أولاً.. وليس أن يملى الطرف الذي معه العدد الأكبر من المشجعين القواعد التي تتفق مع مصالحه على الأقلية لاسيما أن مفهوم الأغلبية بطبيعته متغير عبر الزمن فنضطر كل بضع سنوات أن نخرج في الشارع معلنين أن الأغلبية الحالية تريد إسقاط دستور الأغلبية التي كانت في مرحلة زمنية سابقة.
الفرق بين هذا وذاك كبير.
وسأستعير فكرة لآخر أهم الفلاسفة الأمريكيين المعاصرين جون رولز كي ننطلق منها فلو تخيلنا جميعا أننا رجعنا إلى حالة ما قبل الحياة وقبل معرفة خصائصنا أي قبل أن يعرف أحدنا هل هو مسلم أو مسيحي غنى أو فقير امرأة أو رجل وقررنا أن نضع القواعد التي نحب أن تحكمنا في مستقبل أيامنا دون أن يعرف أي منا ما هي خصائصه التي سيكون عليها بعد أن يولد في الحياة الحقيقية على أرض مصر.
فمثلاً سأتخيل أنني عدت إلى مرحلة ما قبل الولادة لالتقى عدداً من المصريين الذين لا يعرفون هل سيكونون مسلمين أم مسيحيين أغنياء أم فقراء ذكوراً أم إناثا في حالة الحياة الطبيعية بعد الولادة.. وقد قررنا أن نتفق أولا على القواعد التي ستحكمنا حين نولد لنعيش بالفعل على أرض مصر.
يا ترى ما هذه القواعد حتى لا يظلم بعضنا بعضا ؟.. أتصور أنها خمس قواعد أساسية وللجميع الحق في الإضافة والحذف.
أولاً: قاعدة العدالة: نريدها دولة عادلة، والعدالة تعنى المساواة المبدئية بين الجميع أمام القانون بغض النظر عن التفاوت في الدخول والاختلاف في الديانة أو النوع ذكر أم أنثى.. ولكن هذه المساواة لا ينبغي أن تكون عمياء وإنما لا بد أن تسمح بالتفاوت بين المواطنين على أساس المجهود والمواهب فلا يستوي الذين لا يعملون والذين لا يعملون من ناحية،وعلى أساس الاحتياجات.. فلا يستوي من يريد المال كي يغير الـ يخت ومن يريد المال كي يشترى دواء لابنته ولا يجد.
ثانياً: نريدها دولة ديمقراطية كتطبيق معاصر للشورى الموجودة قبل الإسلام التي حض عليها الإسلام.. حتى نضمن ألا تستبد الأقلية الحاكمة بالأغلبية المحكومة.. وهو ما يقتضى بالضرورة أن تكون بنية النظام السياسي قائمة على مقولة: "علينا أن نصنع الدولة، لكن علينا، نحن من يحكمها، أن نكون أول من يلتزم بقوانينها التي تعبر عن مصالح وأصوات أغلب مواطنيها" كما ذهب جيمس ماديسون الرئيس الرابع للولايات المتحدة.
ثالثاً: نريدها دولة متسامحة سياسيا مع الأقليات أي ليبرالية حتى نضمن ألا تستبد الأغلبية من مواطنيها بالأقلية العددية.. وهذا المعنى للتسامح السياسي هو التعريف الذي أستخدمه لليبرالية السياسية ولا مشاحة في اللفظ فكما حمينا الأغلبية من استبداد الأقلية بالديمقراطية.. لا بد أن نحمى الأقلية من استبداد الأغلبية بالليبرالية.. فهناك حقوق ملازمة للمواطنين المصريين حتى إن كانت ليست على هوى الأغلبية مثل حق المواطن في اختيار دينه وفى ألا يفرق بين المواطنين أمام القضاء على أساس النوع أو الأصل أو الدين أو اللغة أو المكانة الاقتصادية والاجتماعية.
رابعاً: نريدها دولة تنموية، أي دولة قادرة على الاستفادة من طاقات أبنائها الاقتصادية في مواجهة التخلف والفقر.. وهذه الخاصية التنموية تقتضى أن تكون الدولة قادرة على التنمية المستدامة والشاملة وتكفى الإشارة إلى أن مصر وتركيا كانتا عند نفس مستوى الناتج القومي تقريبا من 10 سنوات، أما الآن فالناتج المحلى الإجمالي التركي أصبح ثلاثة أمثال نظيره المصري بما يعكس التفاوت في الموارد الطبيعية وكذلك القدرة على الاستفادة منها.
وكي تتحقق هذه الدولة التنموية فإن الأفضل لا بد أن يتقدم في كل مجال بغض النظر عن النوع والديانة والسن.
خامساً: نريدها دولة مدنية تحترم الأديان السماوية وتحترم داخلها مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع.. لكنها في نفس الوقت تلتزم بالضوابط التي تضمن ألا يتحول الدين إلى أداة تحزب واستقطاب وتنازع وكهنوت.. فلا يوجد حزب أو جماعة تتحدث باسم الدين أي دين.. وإنما تحترم كل الأحزاب كل الأديان وتسعى للعمل بمبادئها السامية التي تؤكد معاني العدل والقسط وتكريم الإنسان في مناخ من التراحم والتواد والتعايش.
إذن فلتكن ديمقراطية تحترم الشريعة الإلهية وتحترم الشرعية الديمقراطية، وكلتاهما، في حالتنا، تكاد تتطابق.
إذا توافقت أغلبيتنا الواضحة حتى إن لم نتفق تماما وإجماعا على أن مصر التي نريد هي دولة عادلة وديمقراطية وليبرالية وتنموية ومدنية وترجمنا هذه الخصائص إلى قواعد دستورية وقانونية يراقبها القضاء ويرصدها الرأي العام إذن لا توجد مشكلة حتى لو كان بيننا متطرفون هنا أو هناك.
وليوفق الله أهل مصر لما فيه خير مصر وهم يكتبون دستورهم.
كتبت كلاماً مشابهاً لهذا قبل تشكيل الجمعية التأسيسية الأولى كجزء من حلمي لبلدي.. وبما أنه غالباً لن يتحقق.. فعلى اﻷقل أستمتع بالحلم بالكلمات.
الأحد الموافق
23 ذو القعدة 1434هـ
29-9-2013
عودة الى قضايا معاصرة
|