|
الإسراء والمعراج.. الأحزان والفرج بقلم/ عليوة الشافعي
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي (صلي الله عليه وسلم).
" هل أتي عليك يوم كان أشد من يوم أحد "؟.
قال (صلى الله عليه وسلم): "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي علي ابن عبد يا ليل ابن عبد كلال ، فلم يجبني إلي ما أردت فانطلقت وأنا مهموم علي وجهي.. فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب.. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله تعالي قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال:
يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك.. وأنا ملك الجبال.. وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فما شئت.. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين
فقال النبي (صلي الله عليه وسلم) "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ً " متفق عليه
" الأخشبان: الجبلان المحيطان بمكة"
بين يدي الإسراء والمعراج آلام وأحزان.. وجراحات وأشجان.. فلا يكاد النبي (صلي الله عليه وسلم) يخرج من بلاء حتى يلم به بلاء آخر.. فما يزيده البلاء إلا صبرا ً.. ومن فرط صبره راح الصبر يتعلم من صبره.. وفي كل أحواله (صلي الله عليه وسلم) كان مستسلما منقاداً راضياً عن الله فيما قضي عليه وقدر.
بين يدي الإسراء والمعراج درس بليغ عظيم المعني طيب الروح رقيقاً يتنزل علي القلوب الشجية فيسليها.. ويسري في جنبات النفوس البائسة فيبث فيها روحاً وأملاً ويشفيها.
ذلك الدرس هو كلما كان البلاء عظيما ً كلما كانت المنح والعطايا من الجواد الكريم أوسع وأعظم.
فتعالوا بنا أخوتي الأحبة في كل مكان نتلمس ذلك الدرس العظيم عبر رحلتنا مع الحديث الشريف الذي بين أيدينا حيث تسأل أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله (صلي الله عليه وسلم): "هل مر عليك يوم كان أشد من يوم أحد "؟
ولكن ما الذي حدث لرسول الله يوم أحد؟
أظن أنه لا يخفي علينا ما تعرض له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك اليوم العصيب الشديد من البلاء الذي لا يوصف بل لا يطاق.. فبعد الأوامر المشددة التي أصدرها للرماة الذين كلفوا بحماية ظهر المسلمين وكان من تلك الأوامر ألا ينزلوا من علي الجبل مهما كانت الظروف سواء رأوا المسلمين في نصرة أو هزيمة .
ولكن باجتهاد معظم الرماة الخاطئ.. ولما رأوا المشركين قد انهزموا أمام المسلمين ظنوا أن المعركة قد وضعت أوزارها فنزلوا ليشاركوا إخوانهم في جمع الغنائم فكانت الطامة حيث انكشف ظهر المسلمين.
فاستغل خالد بن الوليد القائد المشرك وقتها تلك الثغرة ليكر علي المسلمين بجيشه من الخلف ففاجأ المسلمون.. فارتبكت صفوفهم وأطربت قلوبهم.. وتقاتل المسلمون علي غير شعار حتى قتل بعض المسلمين بضربات سيوف صديقة.. وقتل المشركون منهم عدد كبيراً.. وفر منهم من فر من هول المفاجأة حتى خلص إلي رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ولنا أخوتي أن نتصور أولئك القوم المشركين وقد أتوا إلي أحد وقلوبهم تتحرق حنقاً وحقداً علي رسول الله.. وقد أصاب عدداً كبيراً من زعمائهم وصفوفهم وهذا هو محمد (صلي الله عليه وسلم) الذي عنه يبحثون قد انكشف أمامهم.. فرموه لشقه.. وأصابوا رباعيته "السن المجاورة للناب" وشجوه في وجهه فجعل الدم يسيل علي وجهه الشريف.. وأشيع بين المسلمين أن محمداً قد قتل.. هذا بلاء ثم بلاء أخر حيث قتل من خيرة أصحابه سبعون رجلا ً منهم عمه حمزة أسد الله القريب إلي قلبه المحبب إلي نفسه وقد مثل بجسده الطاهرة.. فازداد رسول الله هما إلي هم وحزنا إلي حزن.. ولا زال كذلك حتى كشفت الغمة وزالت الكربة.. وانتهت المعركة وأسدل الستار علي صفحة من الصفحات المؤلمة في حياته (صلي الله عليه وسلم).
ومن شدتها وألمها ظنت عائشة رضي الله عنها أنها كانت أشد ما تعرض له رسول الله في حياته ولكن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يجبها.. أن هناك يوماً كان أشد عليه من يوم أحد.. نعم إذا كان غالب ألمه يوم أحد كان في جسده.. فإن الألم في رحلته إلي الطائف.. ربما قد تجاوز البدن ليزلزل نفسه بآلام وأحزان ويترك جرحاً غائرا ًفي النفس الكريمة الشريفة.. وما أفظع الألم النفسي علي النفوس الشريفة الكريمة.
فيوم الطائف كان أشد عليه من يوم أحد ولكن ليوم الطائف مقدمات وملابسات وسبقه جراحات في القلب الشريف غائرات.
ففي نفس العام قد توفيت الزوجة الحبيبة الطاهرة والتي كانت له (صلي الله عليه وسلم) بلسماً شافياً للآلام التي كان يتعرض لها يومياً من كفار قريش.
وبعد ذلك بشهر ونصف تقريبا ً ينام عمه أبو طالب علي فراش الموت وحتى إنه (صلي الله عليه وسلم) لم يستطع أن يقنعه بأن يقول لا إله إلا الله كلمة يشفع له بها عند الله.. ثم إن عمه هذا كان يحوطه ويمنعه من سفاهات القوم وسخافاتهم ليجد نفسه في ذلك وحيداً فريداً في مواجهة أعاصير المحن والشدائد التي كان في غني عنها.
فنالت بالفعل منه قريش ما لم تطمع أن تناله منه قبل ذلك.. فراح (صلي الله عليه وسلم) يبحث عن مكان جديد قد يجد فيه الناصر والمعين له علي تبليغ دعوته فوقع اختياره علي الطائف فتجهز هو ومولاه زيد بن حارثة بقليل من الزاد ليقطعا سوياً رحلة من مكة إلي الطائف تقارب الخمسمائة كيلو ذهابا وإيابا علي أقدامهم.. في صحراء قاحلة موحشة لا زرع فيها ولا ماء ليصل إلي الطائف ويواجه أهلها.. وما أدراك ما أهل الطائف ؟.
أنهم أناس سفهاء الأحلام غلاظ الطباع لا تعرف الرحمة إلي قلوبهم سبيلاً ولا تجد الشفقة إلي نفوسهم مسلكاً بل ليس عندهم أدني ذوق في كيفية التعامل مع الضيوف والنزلاء حتى وإن اختلفوا معهم في الفكرة والعقيدة..
فراح رسول الله يدعوهم إلي الله ويعرفهم بالهدف الذي خلقوا من أجله في هذه الحياة وبينما هو يدلهم علي الدين الحق الذي لا حق بعده ولا قبله ويأخذ بأيديهم إلي الأخلاق الفاضلة والمعاملات الراقية والذوقيات الرفيعة العالية إذ واجهوه بأقبح الشتائم وأفظع السباب بل وأغلقوا في وجهه الأبواب وليت الأمر قد انتهي إلي هذا الحد من الحماقة والسفاهة بل أنهم أغروا به سفهاءهم وصبيانهم ليقفوا من حوله صفين في طريقه وجعلوا يرمونه بالحجارة وهو يفر من بين أيديهم من شدة ألم الحجارة التي إصابته إصابات بالغة فأدموا عقبة وسال منه الدم الشريف ليتخضب بنعله بأبي هو وأمي (صلي الله عليه وسلم) .
فخرج مهموماً مغموماً علي وجهه مذهولاً من هول الموقف فلم يستفق إلا بمكان يسمي "قرن الثعالب " وقد أحدث فيه جرحاً غائراً لا يحسه ولا يشعر به إلا أصحاب النفوس الكريمة وذو الأنساب الشريفة كما أنه (صلي الله عليه وسلم) أولاً وأخيراً بشر ككل البشر له أحاسيس ومشاعر يحزن ويفرح ويتألم لما يصيبه من ضرر وبلاء فراح يشكو أمره إلي الله راضياً مستسلماً "اللهم إليك أشكوا ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني علي الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلي من تكلني ؟ إلي بعيد يتجهمنى أم إلي عدو ملكته أمري ؟ أن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضي ولا حول ولا قوة إلا بك "
فاستجاب الله له علي التو والفور فأرسل إليه جبريل عليه السلام يواسي وحشته ويخفف عنه كربه ومعه ملك الجبال ليأمره رسول الله بما شاء فيهم فهو رهن الإشارة بأمر من الله سبحانه ولو طلب منه أن يطبق عليهم الجبلين اللذين يحيطان بمكة لفعل .. ولأراح الناس منهم انتقاما ً لرجل يدعوهم إلي الله تعالي فلم يرعوا شرفه وقدرة وكان ذلك أول الغيث.
ليتوالي بعد ذلك السيل الهادر من العطاءات والمنح من الكريم الوهاب، إذ لين له القلوب القاسية وحرك شفقه قلبي عتبة وشيبه بني ربيعه فأرسلا إليه قطعاً من العنب مع غلام لهما نصراني يسمي "عداس " فأسلم الغلام على يديه.
ثم وهو في الطريق إلي مكة وبالتحديد في وادي نخلة يستمع إليه نفر من الجن وهو يقرأ القرآن فيعجبوا بهذا القرآن المعجز ويسلموا لله رب العالمين، ويخبر الله تعالي نبيه (صلي الله عليه وسلم) بخبرهم ليهدهد علي قلبه الشجي وليطمئن إلي أن كل من في الكون معه يستجيبون لدعوته وأن رفضها حفنه من البشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، ثم أتته المنحة الكبرى.. أتدري أخي ما تلك المنحة الكبرى ؟
إنها منحة الإسراء والمعراج لتعلن له ولكل أحد أبتلي في سبيل الله إن وراء كل محنة عظيمة منحة أعظم منها تنسيه ما حدث له من ألام وأحزان.. بل ربما تهون عليه كل الآلام التي قد تأتيه.. جاءت حادثة الإسراء والمعراج لترتفع به عن كل السفاهات وعن جميع السخافات.. أكراما ً له علي صبره ورضاه عن ربه فيلتقي به من دون حاجب ولا حجاب ويطلعه علي عوالم الغيب ومكنونات الأقدار إعزازا له (صلي الله عليه وسلم) وتكريماً.
إسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصى قال تعالي " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " الإسراء1
ثم معراج إلي السموات العلا إلي سدرت المنتهي التي عندها جنة المأوى ثم إلي أبعد من ذلك حيث الحضرة الإلهية قال تعالي" مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى"
ألم أقل لك أخي في الله إنه كلما عظم البلاء كلما كان العطاء أجل وأعظم .. لماذا؟
لأننا نتعامل مع رب كريم ذي رحمة بالمؤمنين كرمه بغير حدود وعطاياه بلا قيود ورزقه لمن يشاء بغير حساب فتعلم أخي أنه إذا تعرضت لبلاء فقل " يا الله أشكو إليك ضعف قوتي " .
إذا مرضت فقل "يا الله".
وإذا ما أصابك فقر أو فاقه أو دين فقل " يا الله ".
وإذا حرمت الولد أو الرزق أو الوظيفة فقل " يا الله "
وإذا ما شتمك جاهل وأنت تدعوه إلي الله أو أعتدي عليك ظالم فقل " يا الله يا الله" "أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي .. وارتمي بكليتك وانطرح بكل كيانك علي أعتاب الرب الكريم" فستجد المنح والعطايا بغير حساب.
وإن كنت في شك من ذلك فسل المجرب.. سل أناسا غابوا خلف غياهب السجون سنوات طوال فلما فرج الله عنهم.. كم أعطاهم الله وفتح عليهم من الخيرات والبركات.
وما قصة يوسف بن يعقوب عليهما السلام منا هي الأخرى ببعيد، فاحذوا حذوهم واقتف أثرهم في صبر وثبات ورضا واستسلام، ووقتها ستجد الرب كريم يكشف بلواك ويفرج كربك ويسري عنك ويرتفع بروحك في معراج الأيمان واليقين إلي هناك.. وما أدراك ما هناك حيث السعادة.. التي لا شقاء معها.. وتلك معجزة المختار كرمه بها إله عظيم الشأن مقتدر.
وإلي لقاء آخر....
موضوعات أخري مشابهة.....
لطائف تربوية من رحلة الطائف
الإسراء منحة السماء
عودة الى الطريق الى الله
|