|
عم محمد.. وجمعة لن أنساها بقلم أ. رجب حسن
ألف خطبة بليغة جامعة قد لا تحدث في قلبي أثراً مثل ذلك الذي أحدثه موقف العم " محمد ".. ولا زال مشهده بلحيته البيضاء وثوبه الأبيض، ووجهه المشرق المنير وهو يحتضن الصندوق ولا يريد أن يتركه لأحد ـ لا زال ذلك المشهد يبعث في قلبي معاني أيمانية دفنت في قبور الذنوب والآثام.
وقف الخطيب علي المنبر يوم الجمعة ـ وهو واعظ حسن العبارة، بليغ اللسان ـ وقف يحدث الناس عن فضيلة الإنفاق في سبيل الله، والاستعداد لشهر رمضان، والكلام في مثل هذه المواطن محفوظ ومألوف؛ فلم يكن للحديث كبير أثر ـ حتى انتهت الخطبة.
وأشار الإمام بجمع التبرعات؛ فوقف العم "محمد" ـ وهو ابن الثمانين عاماً ـ وأمسك بصندوق التبرعات، ومضي بين الصفوف؛ وفجأة سقط عم "محمد" علي الأرض والصندوق في يديه وهو يحاول لينهض مرة أخري؛ ولكن لم يجد في نفسه قوة.. وقام الإمام والمصلون ليقيلوا عثرته، ويجلسوه علي كرسيه الذي كان يصلي عليه، وهو متمسك بالصندوق ممسك به يحاول أن يتم مهمته التي بدأها، وليس علي لسانه إلا " الحمد لله.. الحمد لله ".
اندهشت من موقف العم " محمد".. وقلت في نفسي:
" إن رجلاً يفعل هذا وهو ابن الثمانين لابد أن تكون له طاعة تبعث فيه تلك القوة الرهيبة، والهمة العالية".
فسألت المقربين منه من رواد المسجد.. فقالوا: إن هذا الرجل لم تفته جماعة في المسجد منذ خمسة عشر عاماً، ولا يسمع وصية أو موعظة إلا وسارع بالعمل بها.
فقلت في نفسي :"هذا هو السر".
لقد كنا في المسجد شبابا ً وكهولا ً، ولم يفكر أحدنا ـ مجرد تفكير ـ أن يساهم في جمع التبرعات أو يبذل جهدا ً إيجابيا ً يحقق النفع للمسلمين.. وقام ذلك الشيخ الكبير كأنه يعلمنا بالعمل لا بالوعظ والكلام، ففعل ما كان ينبغي أن يفعله الأصحاء .
العم " محمد" رجل عامي بسيط متواضع القلب والمظهر والثياب ـ قد لا يحفظ كثيرا ً مما قاله الإمام عل المنبر ـ لكنه كان في الجمعة هو الواعظ بحق.
لقد ذكرني العم " محمد" معاني دائماً ما كنت أعظ الناس بها .. ولم أكن أشعر أنها عظيمة بهذا القدر الذي شعرت به يوم الجمعة.
كنت أقول: " عمل رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل في رجل ".
أبصرت ذلك جيداً وأنا أري أثر الموقف علي المصلين بعد الجمعة.
كنت أقول: إن الطاعة توفيق من الله يمن الله بها علي من يحبه، فكم من شاب لم يوفق لمثل هذه الطاعات ووفق أليها العم "محمد"، وكم من شباب يملأ الكون جعجعة وخوارا ً وليس لهم من العمل الصالح نصيب.
كنت أقول:" إن الإيمان الصادق هو الذي يبعث في النفوس الهمم العالية، وإن المعصية هي التي تبعث الهم والعجز، لقد قتل الشيخ/ أحمد ياسين علي كرسي متحرك بعد صلاة الفجر في المسجد لأجل أنه يدافع عن قضية سامية عالية، وما منعه سنه ولا مرضه ولا عذره أن يحضر الجماعة في المسجد علي كرسيه المتحرك، وعلي النقيض تري شبابا ً أقوياء يسهرون الليل في الحرام.. وقد عقد الشيطان علي قافية رؤوسهم العقد ويستيقظون وعليهم من الخمول والكسل والبلادة والعجز.. إنه شيء لا يبشر أن يكون في أمثالهم الخير".
إننا ممنوعون من بعض صور العطاء التي تراها الأنظمة بمنظور الريبة والشك.. ولكن أي قوة في الأرض مهما عظمت لا يمكن أن تمنع أحداً أن يكون صورة مشرقة لدينه وعقيدته ومنهجه.
كما كان العم "محمد" صورة مشرقة للعطاء إلي آخر لحظة من العمر.. وهو الذي ليس بينه وبين الدار الآخرة إلا مثل ظمأ حمار.
وعلي إخواننا الذين ينظرون من ثقب إبرة أن يفتحوا بصائرهم للأفق الواسع الرحيب، وعندئذٍ سيرون أبواباً للعطاء والبذل ليس لاتساعها حدود؛ ولنضع نصب أعيننا دائما ً.
"مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا"
عودة الى الطريق الى الله
|