|
مشاعر شتى.. في مشاعر مقدسة بقلم/ هشام فتحي
إن شرفت خواطري بشيء فلن تشرف بأغلى ولا أعز من هذه اللحظة التي أكتب فيها الآن.. كلا ولن تشرف أبداً بأحلى ولا أنقى من هذا المكان.. ولن تزهى بأسعد ولا أخلد من هذه النسمات التي تهب على قلمي.. تهزه فيتراقص معها طرباً.
إن ما في القلب الآن أشد مما رأته العين.. وإن ما في الجنبات من الهناء أكبر مما أكتب وأسطر.
بل إن سراً مكنوناً يجول ويصول في أروقتي مع لفيف جم من الخواطر الغضة التي تنبت مرة في العمر.. وتزهو فجأة في اللحظ.. وتستوي على سوقها بغتة في الحال.. حتى إذا ما وقفت تحدث نفسها بالبقاء عاجلها الزوال بالأفول.. ثم واراها شيء يقضي على السعادة اللحظة.. والهناء اللحظة.. وكذلك الاستبشار اللحظة.. إلي ما هو أكبر.. وأغلى.. وأعز.. إلى السعادة الخالدة.. والهناء الخالد.. والأريحية العبقة في روضات الجنات.
إن ذنوبا كانت تغالبني السير إلى الله وتجافيني عنوة عن المسير.. ثم تحجبني عن أشياء أدركها وتختفي.. ألمسها ثم تند مني.. أتذوقها فلا ألتذ لسرعة زوالها.
أما الآن وفي صحن هذا البيت العتيق يخالجني صوت المؤذن فتتناثر خواطري ذات اليمين.. وعن الشمال عزين منها.. وآخر من شكلها أزواج.. تتراءى لي في جنبات هذا المعلم.. وتطير مع حمامه لا إلى أين.. ولا إلى هناك.. إنما إلى شيء لا أجد له عنوانا ً ولا تصويرا ً.. إلا أحرفا ً تنهال على قلمي تتزاوج .. ومدادي فتستقر عروسا ً على سطوره.. وتنام في خدرها قريرة على صفحاته:
حي على الصلاة
حي على الفلاح
يا الله.. يا لهذا النداء.. يا لهذه الهزة التي تنتابني.. وتحوط بي تدثرني وتزملني.
فيا لجمال بردها الصافي وعطرها الفواح الهادي يتهادي بي يشدني.. ابتدره فيتمالكني شعور أكبر من الوصف.
أكتب.. أردد الآذان.. أنظر إلى البيت.. أراقب روعة المقام.. أعانق منظر الصفا.. أم التقط صورة المروة.. أذهب إلى اليمين.
لا.. لا.. ألصق ظهري بسواري البيت.
لا.. لا .. أطوف.. أسعى.. أدعو.. أبتهل.
كلها خيارات شتى في لحظات أشهى من العسل.. وأرقى من الثريا.. وأندى من الندى.. وألذ من الشهد.. فبأي منها يسد الجائع رمقه.. أو يطفئ عندها ظمأه.
إنها إحدى حفلات العرس القائم الآن بين خواطري والميلاد الجديد لجينات الإيمان القادم وحفلة تقدير لتلك اللحظة التي يتهادى فيها ذلك الإيمان.
كل ذلك يمضى يختال في داخلي والفكر الغابر تبادره الأذهان بأندى منه.. والإدراك الضيق يزداد اتساعا مع قوة ذلك السيل الجارف.. الذي يجرف أمامه ترهات الوسواس الخناس.. ويزجى بكل عزم قوافل الرجوع إلى الله.. فلا مكان لأكاذيب الخاطر.. ولا حتى قيد أنملة لزخرفات التسويف القاتل.. ولا وجود ولو لجزء من الثانية لنفايات الأحلام الراحلة.
البقاء فقط لهذه اللحظة فهي أخلد منهن كلهن.. والجوارح كلها في صف واحد خاشعة لهذه اللمسة المسيطرة.
الكعبة أمامي.. هي.. هي.. تلك التي كنت أراها في رسوم الكتاب المدرسي مذ كنت صغيرا ً.
المآذن والقباب حولي.. هي.. هي.. التي كنت المحها في لوحة عريضة في محلة البقال في بلدتنا.. الخلق كثير ولهج الألسنة.
همهمات شتى أسمعها كأنها هي.. هي.. التي كنت أخالها وأنا انظر إلى نفس الصورة في محلة البقال.. كأنهم يقولون شيئا ً.
ها أنا معهم وبينهم فلا أكاد أسمع ولا أفهم ما يقولون.. اللهم إلا أمشاج من دعوات لا أكثر.
يضيق المكان وينوء الجبل وتزدحم الطرقات بهذه الملايين التي قصدت وجه الله.. ولكل منهم يومئذ شأن يغنيه .. ومسألة تدفعه.. وماض يريد أن يضعه كله عن كواهله.. وإساءات يود لو أنها تصير هباء منثورا ً.. وتجاوزات لا حصر لها يتوق أن يتجاوز الله عنها.
الكل مندفع حثيث.. وشيء غريب يزجيهم.. لا إنها ليست هرولة وراء سراب يزول.. لا ليس سبقا للغنائم.. ولا سعيا لدنيا.. لأنهم كانوا من قبل في دنيا أوسع وأرحب.
لكنهم الآن مندفعون يسابقون قلوبهم ويمتطون أقدامهم تحملهم بشق الأنفس.. يقطعون مسافات للقرب من الله.. يسير الواحد منهم مسافات شاقة لا يهمه.. ولا يأبه بلسعات الشمس لكن بداخله شيء واحد يسير.
هاهنا يلبي.. ويسعى.. ويطوف.. يقف.. يذكر.. يكبر.. يهلل.
إنه يبحث عن مخرج أخير لأنفاق أقامها العصيان داخله.. ويبحث عن ملاذ آمن من هذه الملاذات الشاردة القابعة في أغوار النفس.. لا يهمه ما أهمه من قبل.. لا صوت هنا إلا للحقيقة الغائبة والهاجس المولود الآن.
الصوت العالي الآن ليس من حنجرته.. إنما هو صراخ صادق من داخله تبدو على صفحات وجهه وعلى طول خط جوارحه.. فلا تعجب أن ترى في الطواف رجلا يسير في هدوء يذكر الله.. ثم فجأة يرفع يديه أعلى مما كانت عليه وصوته يجهر به بغتة:
يا رب
يا الله
إنه لما استشعر حلاوة الإيمان ساعة ناداه الإيمان في الحال ولباه الهدى في التو وتلقفته الأنفس فرحا ً.
إن هذه اللحظة قد يعيشها في مكان آخر ربما عندما يختلي بنفسه في جو معتم أو تتغشاه ليلة طويلة.. لكن ظاهرة كهذي التي نتحدث عنها لا تنبت إلا في هذا المكان ولا تؤتي أكلها كل حين في التو والحال إلا في هذا الزمان وذاك المكان.
إنهم يتعلقون بالكعبة وأيديهم إلى أعلى .. كأنهم يريدون أن يتناولون توبتهم ويتلقفون براءتهم أو يستعجلون دخولهم على ربهم.
فأي شيء أغرب مما في دواخلهم.. وأي حديث أصدق من نجواهم وسرهم.. لقد رأيتهم يلصقون أقدامهم بعتبات البيت ويهرولون بين الصفا والمروة في سباق فذ من نوع فريد .. ليست الغلبة فيه في السبق إلى الشارة المنصوبة.. بل في الامتثال وفقط أيا كان طالما أنه في حلبة الميدان خاشع مخبت.
يا الله.. الأسياد.. الأغنياء.. حتى الزعماء.. الكادحون الفقراء كل إلى جنب.. والأكف كلها في علو واحد .. والهامات ذليلة لرب واحد.. فيا لجمال المنظر ويا لهيبة الصورة ويا لروعة مشهد الأوبة إلى الله.
كلها أجزاء متراصة في لوحة الانقياد على رفرف التسليم.. وعبقري الرجوع ومنتهى الغايات.
حقا ً:
لبيك اللهم لبيك
| الإسم | محمد محمد |
| عنوان التعليق | و الله يا أبا خلاد ما شاء الله عليك |
| و ما أجمل اقتباساتك القرءانية و عباراتك الرصينة و أسلوبك الأدبى ووحدة الموضوع و كل ذلك فى ثوب من الصدق
"كأنهم يريدون أن يتناولوا توبتهم ويتلقفوا براءتهم أو يستعجلوا دخولهم على ربهم. |
| الإسم | أبو رضوان |
| عنوان التعليق | هنيئا |
| تقبل الله يا ابو خلاد وهنيئا لك هنأك الله على الدوام وجهزك للنعيم الأعظم آمين ونحن جميعا |
| الإسم | أم خليل |
| عنوان التعليق | ما أجمل ما أحسست به |
| لا أستطيع وصف أحساسى وصفا دقيقا عند قراءة مقال (مشاعر شتى .. فى مشاعر مقدسة)...وجدتنى أبكى .. لماذا ؟؟ لا أعرف ..ربما لأننى هذه الأيام أعيش لحظات من الحنين لغياب أحبتى ؟؟ ربما لأننى أفتقدهم؟؟ ربما لأنهم هناك بعيدا عنى ؟؟ لاوالله كانت هذه الدموع الغزيرة تعبر عن أشتياقى للحظة التى تحدث عنها الكاتب .. فقد وصفها وصفا أعاد إلى روحى هذا الشعور الذى أحسست به حين مررت بنفس اللحظة تقريباوكان معى أحد الأحبة الذي أحتسبته عند الله وعدت بعد زيارتى أصف مارأيت وماأحسست لأبنتى الغالية التى أفتقدها الآن لسفرها بصحبة زوجها إلى الأراضى المقدسة ..نعم ..لقد أفاقنى الكاتب بعد غفوة الفراق على عبير اللحظة التى نعم بها ..فهنيئا لك أيها الأخ الحاج ووعدنا الله سبحانه وتعالى بأن نعيش هذه اللحظة العام القادم بإذن الله تعالى. |
| الإسم | ابو اسلام خالد |
| عنوان التعليق | اللهم ارزقنا |
| اللهم ارزقنا حج بيتك وارزقنا هذه المشاعر يا رب . الرجا من الادارة اعادة نشر المقال في واجهة الموقع لكي يطلع عليه الجميع شكرا اخي الكاتب |
عودة الى الطريق الى الله
|