|
دروس من المحنة.. الإيثار خلق الإبرار بقلم/ دياب صقر
من السمات البارزة للمجتمع المسلم الأول إنه كان مجتمعاً متكافلاً مترابطاً رحيماً.. يعطف الكبير على الصغير.. والغنى على الفقير.. والقوى على الضعيف.. لا يشعر المسكين فيه بالعوز ولا يخشى الدوائر والكروب والملمات.. بل يعيش آمناً مطمئناً بين أبناء دينه الذين وصفهم الله بقوله:
"وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ"
وقال عنهم:
"رُحَمَاء بَيْنَهُمْ".
هكذا كان حالهم فيما بينهم.. فضلاً عن الصفات الأخرى التي اكتملت فيهم كما أرادها الله لهم.. وكما رباها فيهم قائدهم وقدوتهم وأسوتهم (صلى الله عليه وسلم).
فاستخلفهم الله في الأرض.. وبدل خوفهم أمناً.. ومنحهم السيادة والريادة والعزة والسعادة.. وفجر لهم ينابيع البركة.. وجعل أرزاقهم تحت ظل رماحهم.. وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها.. وأنزل السكينة في قلوبهم وهداهم إلى الرشد.. وجعل منطقهم الثواب والحكمة.
ولا أجد لهم وصفاً أبلغ من قول ابن مسعود رضي الله عنه:
"أيها الناس من كان مستناً.. فليستن بمن قد مات.. فأن الحي لا تؤمن عليه الفتنه.. هؤلاء أصحاب محمد أفضل هذه الأمة.. أبرها قلوباً وأعمقها علماً.. أقلها تكلفاً.. أختارهم الله لصحبه نبيه وإعلاء دينه.. فاعرفوا لهم فضلهم وأتبعوهم على أثرهم.. وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم.. فأنهم كانوا على الهدى المستقيم"
والمتأمل في سيرتهم يجدهم طراز فريد اجتمعت فيهم صفات الخير والبر.
كيف لا.. وهم مفرزة لمنهج رباني عظيم تربوا عليه وتخرجوا على يد خير خلق الله.. صاحب الخلق العظيم والقلب الرحيم.. صلوات الله وسلامه عليه الذي قال الله عنه:
"وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"
فما أحوجنا الآن للتأسي بهم؟
ولاسيما إن مجتمعنا اليوم في ترهل وانحلال وتدنى سلوكي خطير.. افقده التذوق الفطري السليم فأعرض عن المنهل العذب.. وأقبل على مستنقع عفن من زباله وثقافة أفكار الشرق والغرب.. وبئس الورد المورود.
وتعاقبت على ذلك أجيال فتوارثوا الأثرة.. ونسوا الإيثار.
وتوارثوا القسوة.. ونسوا التراحم والرفق والشفقة والرقفة.
وتوارثوا الانحلال والتفكك.. ونسوا الترابط والوحدة.
وتوارثوا الفجور والخنا.. ونسوا الطهر والعفاف.
توارثوا البلادة والدياسة.. ونسوا المروءة والشهامة والنخوة والرجولة والغيرة.
إلا ما رحم ربى منهم وعصم.
وأصبح الحال من الصعب التفريق بين سمات المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات الأخرى.. للتشابه الشديد بينهم في السلوك والمعاملات والثقافات والعادات والمظهر العام.
وليس هناك مخرج سوى العودة إلى الإسلام والعمل به.. والاقتداء بالجيل الأول الذي رضي الله عنهم.
وصدق قول أمام دار الهجرة الأمام مالك بن أنس رحمه الله الذي قال:
"لا يصلح أمر هذه الأمة.. إلا بما صلح به أولها"
وجدير بالذكر أن نضرب نموذجاً من هذه النخبة الطاهرة.. ألا وهم (الأشعريون).. وهم طائفة من أهل اليمن من صحابة رسول الله.. أمنوا به وصدقوه وأتبعوا النور الذي أنزل معه.. وكانوا معه بالمدينة.
وهم الذين قال النبي (صلى الله عليه وسلم) فيهم ما رواه البخاري ومسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال.. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
"إن الأشعرين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة.. جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد.. ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية.. فهم منى وأنا منهم"
ومعنى أرملوا: أي فرغ زادهم.. أو قارب الفراغ.
والأشعريون هؤلاء منهم الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري الذي سمعه النبي وهو يقرأ القرآن فقال له:
"لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود"
وذلك لجمال صوته وعذوبة تلاوته رضي الله عنه.
ولك أخي القارئ أن تتمعن في انتساب النبي لهم في قوله "هم منى وأنا منهم".. أنه لشرف عظيم لهم.
وما نالوا ذلك إلا بهذه الشفقة والرحمة والإيثار والتكافل العجيب الذي تحطمت عليه كل نوازع الشح والبخل والأثرة.
ترى هل يشعر فقير بينهم بفارق طبقي أو اجتماعي؟.
أو هل ترى مجتمعاً هكذا حاله.. ترى فيه فقيراً أو محتاجاً أو متسولاً أو مظلوماً أو مكروباً أو مهموماً ولا تجد أحداً يفرج كربه أو يرفع الظلم عنه؟.
لا والله.. لقد كان الأشعريون عظماء كرماء رحماء.
كيف لا.. وهم أهل الحكمة والعلم وأهل الرحمة والسبق.
ولعلك ترى ذلك جليا في وصف الرسول لأهل اليمن عامة.. واليك غيض من فيض في ثناء النبي عليهم.
ففي صحيح البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم)
"أتاكم أهل اليمن أضعف قلوباً وأرق أفئدة.. الفقه يمان والحكمة يمانيه...وقال...الإيمان يمان.. وقال: يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم سحاب هم خير أهل الأرض"
وهم أهل السبق.. فهل تعلم أن..
1- أول صدقه وصلت إلى المدينة بعد الردة من اليمن.
2- أول من كسي الكعبة كساءً كاملاً (تبع اليماني).. وكانت السيدة عائشة وسعيد بن المسيب ينهيان عن سبه.
3- أول من أسلم من العجم (باذان) حاكم صنعاء.
4- أول شهيد في بدر (مهجع العكى) اليماني.
5- أول من استقبل القبلة (البراء بن معرور) اليماني.
6- ومنهم خير التابعين (أويس القرنى).. وهو المستجاب الدعوة الذي لو أقسم على الله لأبره.
هكذا كان أهل اليمن ومازالوا.. وهكذا كان الأشعريون منهم.
لقد كنت أقرأ حديث الأشعريين هذا وكنت أقول في نفسي:
متى تعود هذه الخصال الكريمة والخلل العظيمة والصفات الرحيمة بين أسر الأمة الإسلامية.. وتتحقق هذه المكارم في المجتمع المسلم؟
وكنت أتوق أن أرى واقعاً عملياً لهذا الحديث وتطبيقاً فعلياً له.. لينال أصحابه شرف الانتساب إلى النبي وهو يقول (هم منى وأنا منهم).
وشاء الله عز وجل أن أرى صوره مصغرة لهذا المجتمع.. ولكنني رأيته في مجتمع مغلق هناك خلف الأسوار.. حينما كنت معتقلا مع إخوة الجماعة الإسلاميةً.
فقد كان من بين إخواني بالمعتقل عدداً من الإخوة الفقراء من البلاد البعيدة الذين لم تكن لهم زيارات نظراً لظروفهم العصيبة وبعد بلادهم.. فكان الإخوة يقومون بجمع الزيارات كلها بجميع أصنافها ويضعونها في زنزانة واحدة.. ويوزعونها على الجميع بالسوية.. لا فرق بين فقير وغنى.. ولا مسئول أو فرد.. ولا شيخ أو غيره.. فالكل سواء.
فإذا جاء لأخ عدة غيارات من الملابس الداخلية استبقى واحدة ووزع الباقي.. وإذا جاءه طعام أعطاه كله للمطبخ العام ليوزع بالسوية بين الناس.. فكانت تخرج الزيارة كلها للمطبخ العام فتوزع على الجميع.. وكانت أموال الإخوة في الأمانات تشتري بها طلبات الغرفة أو العنبر ثم توزع على الجميع بالتساوي.. فيتساوى في ذلك من أحضر الزيارة.. مع من لم تأته زيارة منذ عدة أشهر.. ويتساوى في ذلك من لديه أموال كثيرة في الأمانات مع من لا يملك شيئاً على الإطلاق.
وقد كان ذلك برغبة الجميع ورضاهم.. بل وسعادتهم.. فكان الذي يعيش معهم لا يشعر بينهم باحتياج ولا عوز ولا هم.. فلا يفتضح فقير لفقره.. ولا يتعرى إنسان لأن أسرته لا تزوره.
وقد كان بعض الإخوة يخصهم أهلهم ببعض الأطعمة الترفيهية كالحلوى وقطع الجاتوهات واللب والشيكولاتات الراقية التي سمحوا بدخولها لنا بعد المبادرة المباركة.. وكانت هذه الأطعمة لا تؤثر على كم الزيارة الذي تأتي لزنزانة المطبخ أو مكان التوزيع.. وكان هؤلاء الإخوة المرفهين أو بعضهم يتحرج من طلب هذه الأطعمة الخاصة المرسلة لهم من زوجاتهم أو أمهاتهم خاصة.. فكان يتركها لتدخل في دائرة التوزيع.. حرجاً من طلبها.
حتى من الله عليهم وعلينا بدروس الدكتور/ ناجح إبراهيم حفظه الله.. والحقيقة أنها كانت دروس جميله ومفيدة.. وقد كان يتناول فيها الأمور التربوية والجوانب الإنسانية الدقيقة التي تضبط علاقة الإنسان بربه وبدينه وبأسرته وبإخوانه وبأصدقائه.. ومن حوله.. حتى علاقته بمن يخاصمهم ويختلف معهم..كما يحدثنا عن .
ومن بين هذه الأمور تناول حديث الاشعريين وكيفية تطبيقه بين الإخوة بما لا يؤثر على خصوصيات الفرد.. فوضع لنا ثلاث قواعد ضابطه:
أولاً:- الأصل في الإسلام هو الملكية الخاصة.. ولكن قد تأتي ظروف وأحوال من الجوع والفقر والخاصة والعامة.. ففي هذه الحالة فإن فلسفة الأشعريين في التكافل الاجتماعي هي أعظم فلسفة تتناسب مع هذه الأوقات.. وقد أقرها ومدحها رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. حيث قال عنهم (هم منى وأنا منهم)
ثانياً:- الإسلام احترم خصوصيات الإنسان.. وأبى أن يأخذ من الإنسان كرائم أموالهم حينما أمر بأخذ الزكاة منهم.. فقد قال رسول (صلى الله عليه وسلم) لسيدنا معاذ بن جبل عندما أرسله إلي اليمن وأمره بجمع الزكاة قال : "وإياك وكرائم أموالهم".. فلا يختار جامع الزكاة أفضل الإبل عند الغني.. ولا أفضل الغنم عنده.. لأنه ارتبط بها روحياً ونفسياً.. وبذل من أجلها الكثير والكثير من العناية والرعاية.. ولن ترضى نفسه بأخذها.
وكان الدكتور ناجح صاحب دعابة يتخلل حديثه بتعليق طريف ليذهب عنا الملل.. فيقول:
"يعنى أخ زوجته أرسلت له تورته وكتبت له عليها بالكريمة "love you I" أو رسمت له عليها وردة جميله تيجى أنت تأخذها منه".. على طول هيقول لك أنت هتاخد الـi love you بتاعتى ويزعل منك".. فهذه من كرائم أموالهم.
وكان يضحك ويضحكنا.. ثم يعود لحديثه ويكمل القواعد الضابطة.. فيقول:
ثالثاً:- الضرورة تقدر بقدرها.
رابعاً:-لا يجبر أحد على المعروف:
خامساً:- "الغنم بالغرم".. وهذه لغير الفقراء.. وإنما تخص قله قليله جدا ممن كانوا يعطون القليل في وقت المحنة ويريدون أخذ الكثير في وقت السعة.. فما دمت أعطيت في وقت الشدة فأنت أولى الناس بالأخذ والرعاية والاهتمام والإكرام في وقت الرخاء.. جزاءً وفاقاً.
فكانت هذه القواعد ضوابط شرعيه رفعت الحرج عن إخواننا الكرماء.. جزاهم الله خيرا ً.. فعاد إليهم ما كان يخصه أهله لهم.. وتنافس أهل الخير بخصوصياتهم تلك في الإغداق على إخوانهم الفقراء.. حتى أصبح الأخ الفقير أغنى من الموسر.
والحقيقة أنني لما رأيت ذلك وعشته حمدت الله عز وجل وقلت مازالت الأمة بخير.. وصدق رسول الله القائل:
"لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا خزلهم".
وأنا لا اختزل هذا الحديث في طائفة معينه أقصدها.. لكن فيه بشرى بزيلولة الخيرية في الأمة بمجموعها
كما أدركت أنه لن يجوع فقير إلا إذا قصر غني في إعطائه حقه من الزكاة.. وأن الفقر ما شاع إلا نتيجة شح الأغنياء بأموالهم.
هذا والله من وراء القصد
الجمعة الموافق
25-8-1431هـ
6-8-2010م
| الإسم | شاهد على المحنة |
| عنوان التعليق | ماأروع الايثار |
| هل الايثار فقط داخل السجون ؟
اليس من الاسلام ايضا ترابط الاسر فى هذه المحنة ؟
اليس من الاسلام ايضا السؤال ولو بالكلمة عن اهالى الاخوة؟
غفر الله لنا ولكم وجعل الله هذه المحنة فى ميزان حسنات الجميع |
| الإسم | بخيت خليفة |
| عنوان التعليق | جنة الاخلاق بها رحمنا |
| كثيرا ما يشرد الذهن نحو ايام المحنة ، وأتسائل لماذا نحن في السعة ونعاني الضيق ،بينما كنا في الضيق وكنا نشكر السعة ، ولماذا ملكنا كل شئ بعد الخروج ونشعر بالحاجة والفاقة ، رغم أننا كنا لا نملك شيئا مطلقا ، وكنا نرى اننا اغنى الناس ،ولو علم الناس حالنا لحسدونا ، الفرق طبعا هو تلك المعاني التي بها رحمنا ، وبتلك الاخلاق التي كانت سببا في المحبة والرضا والتراحم وطيب الخاطر ، يا سبحان الله كم جنة الاخلاق في الاسلام جميلة لو كانوا يعلمون ، حيا الله الكاتب ذكرنا بالخير |
| الإسم | المشارك |
| عنوان التعليق | شاهد على بعض العصر |
| لاشك أن الجماعة الإسلامية قدمت قمم نموذجية في مسألة الإيثار، جزاهم الله خيرًا، حتى مع غير المنتمين إليها، وهذا يشكر عليه جميع إخوة الجماعة الإسلامية، وإن كان أي عمل لا يخلو من بعض الأخطاء، ولكن يشهد الله أنهم خففوا معاناة أخوة كثر فجزاهم الله خيرًا، وكم تحملوا من أجل إخوانهم، واستوعبوا أعدادًا وهم يعلمون أنهم ليسوا من جماعتهم، ولكن كانت هناك نفوسًا كبيرة، لا ننسى منهم الشيخ حسن الغرباوي، والمهندس رشاد ولا أعرف بقية اسمه، والشيخ دياب صقر، والشيخ نبيل، والدكتور محسن، وأخيه الدكتور محمد، والأخ أحمد علي، وغيرهم كثير. فجزاهم الله جميعًا خيرًا، وأرجو أن يستمر العطاء في الخارج كما بالداخل. |
| الإسم | احمد زكريا |
| عنوان التعليق | فتح الله لك يا ابا عمرو |
| ما اروع تلك المعاني التي نفتقدها في حياتنا المعاصرة
والى الامام يا شيخ دياب |
| الإسم | محمد اسماعيل محمد |
| عنوان التعليق | دائما فى الطريق الى الله |
| نعم الايثار خلق الابرار وايضا تجد الايثار فى قلب يكون به رحمه ويحب الخير للناس ويحب الاْنسان لوجه الله يبتغيي مرضاة الله لكي يظل في ظل الله يوم القيامه وانا تجربتي في الاعتكاف مع اخوتي فى المسجد كلنا يحب البعض حبا كثيرا برغم اننا لاْول مره نتقابل ودائما نساْل على بعضا للبعض فان الايثار موجود فى مجتماعنا قليل ام كثير (المهم اننا نجده ) وبارك الله فيك وزداك علما ينتفع الناس به (وجزاك الله خيرا) |
| الإسم | عبد الفتاح الذيات |
| عنوان التعليق | عم عبده الذيات |
| |
| الإسم | عبد الفتاح الزيات |
| عنوان التعليق | عم عبده الزيات |
| مهما نطق اللسان وكتب القلم البيان لا نعطيق حقق في حرصك على نشر الاسلام وانك اسد هذا الجيل ربنا يجعل هذه الامه مثلك ويزيدك من العلم والثبات على هذا الدين العظيم والصلاه والسلام على اشرف المرسلين |
عودة الى الطريق الى الله
|