|
الفُـرَص الضَّائعــة بقلم/ محمد عبد الشافي القوصي
ذات ليلة مرَّ بجوار خيمة (شيخ الطريقة وبحر الأسرار) فسمعه يقول: لقد حضر أحد المريدين مجلساً لأحد المدَّاحين، فلمَّا طاب السماع، وتواجد الحاضرون صرخ ذلك المريد ووقع أرضاً.. وحين حرَّكوه وجدوه جثةً هامدة لا حياةَ فيها.
ولمَّا تناهى إلينا الخبر؛ طلبتُ من أصحابي الذهاب إلى المدَّاح نفسه.. فلمَّا وصلنا عنده شرعتُ بالمدح والغناء ومعي أتباعي، والمدَّاح يستمع بخشوعٍ شديد .. فلمَّا صرَّحتُ باسم (الحبيــــب) خرَّ المدَّاح مغشياً عليه!
فقلتُ لهم على الفور: قتيلٌ بقتيل، قد أخذنا بثأر صاحبنا !!
فتعجب أحد الحاضرين.. وقال: لقد سكرتُ من كثرة ما شربتُ من كل محبته.
فردَّ عليه الشيخ (أحمد أبو رضوان) قائلاً: غيرك شرب من بحور السماوات والأرض، وما رويَ بعد.. ولسانه خارج يقول: هل من مزبد!!
بمجرد أن سمع هذا الحوار من خلف الخيمة اكفهرَّ وجهه وتنفس الصعداء وولَّى مدبراً، وذهب إلى أهله يتمطى وراح يلعن البلدة بما فيها ومن فيها.
فقد كان ضيِّق الصدر سريع التوتر يتأفَّف من سماع الآراء التي لا توافقه، ويتضجر عند سماع الرقائق الوجدانية العاطفية؛ كالمكاشفة، والمشاهدة، والولاية، والتجلِّي، والإلهام، والأحوال والمقامات، والمعجزة والكرامة، والوجد والصبابة، والذوق والشراب والسكر والفناء، وغير ذلك من الكلمات ذات الرموز الفلسفية، والدلالات البعيدة.
بلْ كان يعتقد أنَّ هذه الكلمات مس شيطاني، ومن تلبيس إبليس..
ولطالما حاولوا أنْ يقنعوه أنّ للهِ في خلقه شئون، وأنَّ الكون مملوء بالآيات والعِبَر، وأنَّ بحار العلم لا ساحل لها، وأنَّ الكلام لا يؤخذ بظاهرة، وأنَّ الأشياء من ورائها أسرار دفينة، وحقائق ملغزة، ومعان بعيدة!
لكنَّ ذلك كله لمْ يغيِّر من تكوينه الحجري، وطبيعته الصخرية، ونفسيته العدمية!
بلْ كان يتهم هؤلاء وهؤلاء بالجهل والابتداع، ويرميهم بالكفر والإلحاد والزندقة.. ويلوك لسانه مئات المرات.. قائلاً: أنا سلفي .. أنا سلفي!
حتى يئس منه كل الناس بما فيهم خاله؛ العالِم العلاَّمة الذي كانوا يشبِّهونه بـــ(يوســــــف الصدِّيـــــق) لحلمه وصفحه الجميل .
فقد احتدم بينهما الجدال مراراً.. وقال له: لماذا تنكر الولاية وتكفر بالعلم اللدني؟ .. وكيف لا تعترف بالمجاز ولا بالتأويل، ولا تقتنع بالقياس، والاستحسان، والاستنباط، والعرف، ورفع الحرج، والمصالح المرسلة؟!
يا ولدي.. ما هذا الغلوّ والتطرف الذي أصابك؟ وما قيمة الكتب والمراجع والمخطوطات العتيقة التي ملأتَ بها منزلك؟
وما جدوى المتون والحواشي، والشروح والتفاسير، والأسانيد والعنْعنات التي ضجَّ بها دماغك .. مادام قلبكَ كحجارة الأهرام وصخور الأحقاف .. بلْ أشد قسوة!
في يومٍ ما؛ قرر خاله زيارته في بيته لإزالة الأوهام التي رانتْ على قلبه، ونفض الغبار الذي نسج خيوطه على عقله.
بعد مسيرة ساعتيْن أوْ يزيد وصل إليه، وجذبه نحوه بقوة، وقال له: هل تصدِّق الحكاية التي سأرويها لك الآن؟
فقال باشمئزاز: لمْ أعرفها بعد.
فظلَّ يحكي له حكاية إثر حكاية، وقصة تلو الأخرى .. دون فائدة!
فكان كلما سمع حكاية؛ أدار ظهره ولوى عنقه، ممتعِضاً مما سمع .. بلْ ازداد عناداً وجعل أصابعه في أُذُنِه.. واستغشي ثيابه وأصرَّ واستكبر استكبارا.
فأدرك خاله أنَّه مازال في ضلاله القديم .. ففكَّر تفكيراً منطقياً، وأتى بحكاية خالدة، ليفحم بها ذلك العتوّ اللدود!
قال: يا ولدي.. إنْ جاز لك أنْ تكذِّب كل هذه الحكايات المشهودة، فهل تجرؤ أنتَ ولا أمثالك من الأعراب الأجلاف؛ أن تكذِّب الحكاية التي سأرويها لك الآن .
فقال منفعلاً: وما هي؟
قال: هلاَّ سمعتَ عن الحادثة التاريخية التي مازالت لُغْزَاً مُحَيِّراً ..؟
قاطعه على الفور: عن أيّ حادثة تتكلم ..؟
قال ضاحكاً ومبتهجاً: افتح قلبك.. وافهم معاني الكلام ومراميه.
كان هناك رجل عظيم الشأن جليل القدر.. ظَلَّ في مكانه خاشعاً مُتبتِّلاً .. ومُتكِئاً على عصـاه!
فلا يدري أين هو؟
وما الذي حدث؟
وَهَلْ ما شاهده كان حُلْماً أمْ حقيقةً؟
وما طبيعة الرجل الخارق الذي التقاه؟
أهوَ من الإنس أمْ من الجن أمْ من الملائكة؟
وإلى أين تسوقه الأقدار؟
وَهَلْ ستتاح فرصةٌ أخرى للقائه.
ثمَّ تدافعتْ نحوه الأسئلة تترى، وشغلته عن نفسه.. بلْ شغلته عن كل شيءٍ حتى إنَّ "غلامـه" أشفق عليه، بعدما أصابه من العناء ما أصابه .. بحثاً عن صاحبه في تلك البلاد البعيدة!
ثمَّ راح يُقلِّبُ وجهه في السماء ذات البروج، مُتلَذِّذَاً بحلاوة المناجاة قبل الغروب!
مَكَثَ على هذا النحو حيناً من الدهر .. وَلَمَّا استيْأسَ من لقاء صاحب الخوارق؛ قرر الرحيل!
لكن قبل مغادرة المكان؛ فُوجِئ بِرَجُلٍ قادمٍ من مكان بعيدتعرف في وجههِ نضرةَ النعيم، ولا تفارق الابتسامة وجهه الصبوح، وتوشك الأرضُ أنْ تُضِيء من طلعته، وعليه من المهابة والوقار ما لا يعلمه إلاَّ الله!
لَمَّا دنا منه تَأَرْجح بين الخوف والرجاء، وظلَّ ينظر إليه كأنما ينظر إلى كَوْكَبٍ دُريٍّ لاحَ في عنان السماء! لكنه لَمْ يعرفه .. فأَرجع البصر كَرَّتَيْن، فَلَمْ يعرفه!
تَقَدَّمَ الرجل نحوه، وَوَضَع يده على كتفه، وقال مُبْتَسِمَاً: ماذا تفعل هنا؟
فأَوْجَسَ خِيفَة، وَلَمْ يستطع أنْ ينطق بكلمة واحدة! فانتزع منه عصاه، ثمَّ قال: أمَا زِلْتَ لا تعرفني؟ أمَا زِلْتَ لا تعرفني؟
فراح يسترجع أحداث الزمان، وحكايات المكان .. فتذكَّره، وَتَهَلَّلَ وجهه بالبشرى!
وقبل أنْ يعانقه؛ سأله مرةً أخرى: ماذا تفعل هنـا؟
قال: لا شيء، سوى أنني مازلتُ مذهولاً مِمَّا أحدثته من خوارق تشيبُ لها الولدان!
فَتَبَسَّمَ، وقال معاتباً: أَمَا اقتنعتَ إلى هذا اليوم بالتأويل؟ أَمَا اقتنعتَ إلى هذا اليوم بالتأويل؟!
ظلَّ يرددها مراراً .. وطفِقا يضحكان معاً!
انطلقا بعد ذلك إلى مكانٍ أشبه بربوةٍ تحوطها جَنَّة عالية، قطوفها دانية! وهنالك سأله ذات السؤال: أَمَا اقتنعتَ إلى هذا اليوم بالتأويل؟!
سَكَتَ قليلاً، ثم قال: بَلَـى .. ولكــن!
قاطعه على الفور: مـاذا بعـد لكـن يا هـذا؟
أجلسه على يمينه، وقال: "سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً" لكن بطريقة أُخرى!
أتلومني على خـرق السفينة خشيةَ أنْ يَغرقَ أهلها؟
أَلَمْ تُلْقِ بكَ أُمُّكَ في اليمِّ فأحاطتكَ العناية وَرَجَعتَ إليها سَالِما؟
وتلومني على قتـل الغلام دون أنْ تدري مدى البلاء الذي كان سَيُحدِثه؟
أَفَلَمْ تقتل الرجل البريء.. ثمَّ فَرَرتَ خائفاً!
بَلْ هَمَمْتَ بقتل آخر ..
وتلومني على ترك أَجر جِـدار أَقَمته؟
َفَلَمْ تَسْقِ الماء في مَدْيَنَ دونما تأخذ عليه أَجْرًا؟
يا هذا .. لا تَلُـمْ .. حتـى لا تُـــــلاَم..
عندئذٍ هَزَّ رأسه متعجباً مِمَّا يموج به عالم الأسرار وراح يهتف بصوتٍ شجيّ:
سبحان الله .. سبحان الله .. سبحان الله!!
ثمَّ رفع رأسه؛ ليطلبَ من صاحبه الصفح والغفران .. فَلَمْ يجد له أثراً!
وأدرك أنه أضاع فرصةً ذهبيةً أخرى .. يستحيل أنْ تتكرر!
فطفِق يردد بصوتٍ خاشعٍ ممزوجٍ بالفرحِ والدموع:
يا هـذا .. لا تَلُـمْ ... حتـى لا تُـــــلاَم!
الثلاثاء الموافق
28- رجب 1435هـ
27-5-2014م
عودة الى الطريق الى الله
|