|
ذكريات مع صاحب الحنجرة الذهبية بقلم د/ ناجح إبراهيم
كانت إذاعة القرآن الكريم هي سلواي الأول والأخير في فترة سجني.. كنت أحب سماع القرآن أكثر من قراءته.. لأنني أمل القراءة سريعاً.. ولا أمل من السماع.. وقد واظبت على قرآن السهرة قرابة عشرين عاما ً كاملة.. 11 قارئا ًرائعا ً كنت أتابعهم بشغف باستمرار.. كان الراديو ممنوعا ً في أوقات كثيرة في السجون.. وكنا نتفنن في إخفائه عن أعين الضباط والمخبرين.. فنخبئه في باب الزنزانة أو عند دورة المياة.. وكنا نصنع مخبأ في كل زنزانة في الأرض.. وهناك متخصصون في صنع المخابئ.. وكان الشيخ على الشريف هو أفضل من يصنع المخابئ.
كان الراديو والقلم والكراسة ومؤلفات الإنسان والمقص والقصافة من أهم ما نضعه في المخبأ.. وعندما ينصرف الشاويشية نفتح المخبأ بشوق لنستمع إلى القرآن ينساب رائعا ً تارة من صاحب الحنجرة الذهبية الذي عشقته الشيخ عبد الباسط.. والذي اعتمد في الإذاعة صغيرا ً واشتهر في مصر والعالم كله.. وأسلم على يديه عشرات الآلاف.. وكنت دائما ً أردد لتلاميذي: الشيخ عبد الباسط مثل الإمام الشافعي.. كلاهما ذهبا للعالم كله لينشر علمه ولم ينتظرها حتى تأتيه.. الشافعي نشر مذهبه.. وعبد الباسط نشر الإسلام بصوته الرائع.
فكل القرى التي قرأ فيها الشيخ عبد الباسط في الهند واندونيسيا أو الفلبين أو بنجلاديش أو جنوب أفريقيا أو أي دولة أخرى أسلمت بكاملها .. حتى أن الاندونيسيين إلي الآن يقلدونه في القراءة.
وقد قال لي أحد المترجمين الاندونيسيين: لولا الأزهر وعبد الناصر وعبد الباسط ما كان هناك ذكر لمصر في اندونيسيا.
لقد حظي الشيخ عبد الباسط على أكثر الألقاب العظيمة من الناس قبل الحكام ومنها "قارئ مكة .. أو صوت مكة ".. وذلك بعد أن بهر الناس بروعة صوته وأدائه وهو يتلو القرآن في الخمسينات في الحرم المكي.
وقد وجدت من كثرة تأملي لأهل القرآن أن عملاق القرآن والأب الروحي له في مصر الشيخ/ محمد رفعت أورث طريقته في القراءة للشيخ أو العينين شعيشع.. وهو الذي تعلم منه الشيخ عبد الباسط روعة القراءة والتجويد وقوة الصوت.. وقد حكى الشيخ شعيشع أنه كان يقلد الشيخ رفعت ويذهب كل جمعة لسماعه في مسجد شبايك بالقاهرة.. فقال أحد الجلساء للشيخ رفعت: يا مولانا هناك ولد صغير أسمه أبو العينين شعيشع يقلدك ويريد أن يأخذ مكانك.. فقال له الشيخ رفعت بأدبه المعروف: هذا الشاب أحبه كثيرا ً وسيكون له مستقبل عظيم.. فلم تكن الضغينة والبغضاء قد دخلت بين الناس في مصر.
وهنا انتفض الشاب شعيشع فرحا ً وقبل يد الشيخ رفعت قائلا له: أنا خادمك وابنك شعيشع.. فقبله الشيخ/ رفعت واحتضنه.
وأول من عرف مجموعتنا في السجن على صوت الشيخ شعيشع كان المهندس/ أبو العلا ماضي فك الله أسره.. ومن يومها تعلقت بصوته.
نعود إلي صاحب الحنجرة الذهبية عبد الباسط الذي سافر إلي باكستان ففوجئ بالرئيس ضياء الحق يستقبله على سلم الطائرة ضاربا ً بكل الأعراف الدبلوماسية عرض الحائط ومسجلا ً في الوقت نفسه تقديرا ً خاصا ً له ولأهل القرآن عامة.
وحينما زار الشيخ/ عبد الباسط الهند لقراءة القرآن في احتفال شعبي كبير إذا به يفاجأ بأنديرا غاندي رئيسة الوزراء بين الحضور رغم أنها هندوسية.. ويفاجئ بالحضور جميعا ً يخلعون الأحذية ويقفون من مقاعدهم وقد حنوا رءوسهم إلي أسفل وأعينهم تذرف بالدموع.. حتى أن الشيخ عبد الباسط لم يتمالك نفسه فبكى في نهاية تلاوته.
وقد تأملت هذه الواقعة بالذات وقلت أهل آسيا أرق من أهل أفريقيا .. وأهل الهند مع جنوب شرق آسيا يأسرك أدبهم وخلقهم .
فقد حضر إلي منزلي مرة صحفي ياباني كبير.. وقد تعودت أن أكرر ترحابي بضيفي.. وكلما رحبت به وقف محييا ً شبه راكع.. وكلما قدمت له شرابا ً أو حلوا ً فعل ذلك فقلت في نفسي: والله إنها لأخلاق الإسلام الحقيقية التي نفتقدها في حياتنا.
وقد تفكرت في موقف أنديرا غاندي وغيرها من غير المسلمين الذين أحبوا سماع القرآن أو قراءة تفسيره أو قراءته وخلصت وأنا في هذا العمر أن القرآن ليس للمسلمين وحدهم وليس حكرا ً لنا ولا خاصا ً بأحد.. أنه للجميع.. ويفيد الجميع من يؤمن به ومن لا يؤمن به.
وقد بهر الشيخ عبد الباسط الاندونيسيين حينما قرأ في مسجد الاستقلال وهو أكبر مسجد في شرق آسيا ويسع مليون مصلي فامتد الحضور خارج المسجد إلي دائرة قطرها كيلو متر وهم وقوف في حالة خشوع.. سلامُُ على الشيخ عبد الباسط في العالمين.. وإلي يوم الدين.
نشر في الشروق
الاثنين الموافق
23- رمضان 1435 هـ
21-7-2014
| الإسم | hamra ahmed |
| عنوان التعليق | شكر و تقدير |
| اولا لا يسعني الا ان اشكر الاستاذ الدكتور على هذه المعلومات القيمة و الحياة الراقية في صل الاستماع الى تلاوة الشيخ عبد الباسط، حقيقة تابعت تلاوة الشيخ عبد الباسط رحمه الله اكثر من 30 سنة و لا يمكني التخلي عن تلاوته ابدا، رغم شح الاشرطة في تلك الفترة الا ان امةواج الاذاعة المصرية و المغربية كانت تبث التلاوات في كل مساء و في الصباح ساعة ثماني، طبعا هي ايام رائعة و شعور رائع عند استرجاع هذه اللحظات، دمتم في رعاية الله و ارجو ان ترفعو لنا بعض ما يوجد عندكم من تلاواته في قسم الصوتيات و اجركم على الله باذنه |
عودة الى دروس في الدعوة
|