|
وداعا للفوضوية.. نحو استثمار أمثل للجهود والطاقات ... الحلقة الثانية - بقلم /أسامة محمد عبد العظيم
والآن.. بعد أن تعرفنا على معنى الفوضوية في المحطة الأولى من رحلتنا المباركة..فقد وصل بنا المقام إلى المحطة الثانية، وهى بعنوان: لماذا الحديث عن الفوضوية؟!..
ولعل السائل يطرح هذا السؤال, ويقول: ألم يكن الأجدى أن نتحدث عن خطورة إهدار الأوقات وتضييع الأعمار دون فائدة؟!, أوليس من يغفل قيمة وقته وشرف زمانه أولى وأجدر باللوم والتقريع ممن يعمل ويبذل ويجتهد.. ولو في غير نظام وبدون تخطيط؟!, ونقول للسائل الكريم.. معك حق في سؤالك.. ولكن الواقع إن الفوضوية أخطر بكثير من تضييع الوقت وإهداره, فالذي يضيع وقته ويجلس يومه فارغا ً من غير عمل نافع مفيد يشعر غالبا ً بأن لديه مشكلة, وأنه على خطأ.. ولعله حين يأوي كل ليلة إلى فراشه يؤنب نفسه, ويراجع سجل يومه فإذا به فارغ من الأعمال.. وهنا يتولد لديه وازع داخلي للتغير إلى الأفضل.
بعكس الإنسان الفوضوي فهو غارق في مشكلة عويصة ولا يشعر بها.. تراه يبذل جهدا ً كبيرا ً, ويتعب تعبا ً شديدا ً, ويظن في نفسه أنه قد قام بواجبه وأدى ما عليه.. وأنه لم يأل جهدا ً ولم يدخر وسعا ً – وهو كذلك بالفعل – ولكن الحقيقة المؤسفة أنه يعمل من غير فائدة, ويبذل بدون هدف واضح محدد.. يظن أنه إنسان فعال وما علم أن الفعالية لا تعني مجرد بذل الجهد بقدر ما تعنى أن يوضع هذا الجهد في مكانه المناسب.
لذا كان لا بد من الحديث عن الفوضوية.. ولابد أيضا ً من الوقوف مع النفس وقفة صارمة, تقيم فيها أعمالها, وتعيد ترتيب أولوياتها, وتتأكد من وضوح هدفها وجلاء طريقها, ثم تحزم أمتعتها وتسير متوكلة على الله عز وجل.
هذا, وإن من أهم الأسباب التي تؤكد بشدة على الحذر من داء الفوضوية ما يلي:
أولا ً: لأن الفوضوية تنافي قيمة النظام:
وقد أعلى الإسلام شأن النظام وحث عليه, وجعله معلما ً بارزا ً لأمة الإسلام في كافة شئونها.
ففي الصلاة يقول المصطفي صلى الله عليه وسلم: (استووا, ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم).
وفي الجهاد يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ).
يقول الدكتور/ عبد الكريم زيدان – في كتاب أصول الدعوة : النظام وسيلة جيدة لابد منها لحسن استخدام الجهود, وتوجيهها على نحو مثمر في مجال الدعوة إلى الله.. وبالتالي زيادة فرص نجاح الداعي في بلوغ هدفه, وبدون النظام تتبعثر الجهود, ويكون السير على غير هدى.. والإسلام هو دين النظام, فالصلاة تؤدي بنظام من جهة الوقت, ومتابعة المأموم للإمام.. وكذا في العبادات الأخرى مثل الحج والصيام والزكاة " انتهى ص (463).
إذن فالفوضوية هي ألد أعداء النظام.. فلا ينبغي للمسلم الذي أدرك حقيقة الإسلام وتعظيمه لشأن النظام أن تتصف أعماله بالفوضوية, أو تتسم جهوده بالعشوائية.
ثانيا ً: لأن الفوضوية تنافي الإحسان:
والإحسان هو أعلى مراتب الدين, وقد أمرنا الله به, وحث القرآن أهل الإيمان على توخي الإحسان في كل أعمالهم فقال عز من قائل: (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ), بل المولى عز وجل جعل الدنيا مضمارا ً للتنافس بين الناس في إحسان العمل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ً).. بل كتب الله تعالى الإحسان على كل شيء, حتى في ذبح الحيوان الأصم.
وعلى ذلك.. فالإحسان في قاموس المسلم لا يقف عند حدود أداء العمل وبذل الجهد, وإنما يتعداه إلى ما هو أعمق من ذلك, وهو إتقان العمل وتجويده, وتوجيه الجهد والطاقة في الأولى والأنفع والأعظم ثمرة...وكل هذا نقيض الفوضوية وعدم النظام.
ثالثا ً: لأن الواجبات أكثر من الأوقات:
فالواجبات في هذا الزمان كثيرة, والأعمار قصيرة.. وليس هناك مجال لإهدار العمر في غير ما هو أنسب وأنفع وأجدى, فضلا ً عن إهداره في غير فائدة.. ومن تأمل أعمار الناس في هذا الزمان وأخضعها لعملية حسابية بسيطة سوف يدرك فداحة الخطب وخطورة الموقف.
فلو تأملت على سبيل المثال في حال أكثر الصالحين اليوم, فستجد أن الكثرة الغالبة لن تلتزم طريق الصلاح إلا في حدود العشرين تقريبا ً.. وبناء على حديث النبي صلى الله علية وسلم: (عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين), يكون ثلث العمر قد فات دون استفادة ملموسة, ويتبقى من العمر أربعون سنة.. هذه الأربعون غالبا ً تنفق كالآتي: ثلثها في النوم, وثلثها في الدراسة أو في العمل, والثلث الأخير – وهو ما يقارب ثلاثة عشر عاما ً تقريبا ً – تنفق في الشئون الدينية, والأعباء الدنيوية: كالطعام والشراب والزواج ورعاية الأولاد والسفر وزيارة الأقارب وغيرها.
فبالله عليك كم تبقى من العمر للتنافس في شئون الآخرة؟!, وهل تحتمل هذه السنون الباقية أن تهدر فيما هو أقل نفعا ً وأدنى فائدة؟!, أليس حريا ً بكل عاقل إذن أن يقف مع نفسه طويلا ً قبل القيام بأي عمل, وأن يمعن النظر لينتقي من الأعمال ما هو أهم وأولى وأجدر؟!,.
رابعا ً: لأن الفوضوية هي أخطر أدواء الإسلامي المعاصر:
فكثيرا ً من العاملين للإسلام لا ينقصهم الصدق والإخلاص, والبذل والتضحية, بقدر ما ينقصهم العمل الجاد المنظم, ولعل المتأمل في حقل الدعوة الإسلامية يجد إشكالية غريبة لا تخفي عن كل ذي عينين.. فما أكثر عدد المتدينين والمتمسكين بالإسلام, وما أشد عاطفتهم.. ولكن أين الثمرة؟!, وما هي النتيجة التي تحققت لكثير من الأعمال بذل فيها من الوقت والجهد الكثير والكثير؟!,.
إن العمل الإسلامي قد يكون ثريا ً بما يمتلك من طاقات وجهود, ولكنها في الحقيقة غير موظفة كلها, والموظف منها موظف جزئيا ً أو بطريقة سيئة.. تلك حقائق ينبغي أن نصارح بها أنفسنا, ولا نستغرب هزال الثمرة, وضعف النتيجة الموجودة, فحين يسير العمل دون قواعد مدروسة وأصول راسخة, وحين يتم بصورة غير منهجية, وحين لا يعرف العاملون للإسلام ما يجب عمله اليوم وما ينبغي تأجيله للغد, وحين لا يفرق بين المهم والأهم, وبين غير المهم والمهم, ولا ترتب الأعمال طبقا ً للأولويات.. فحينئذ يحدث الخلل.
فعلى الدعاة المخلصين إذن أن يطلقوا الفوضوية طلقة بائنة حتى لا تضيع جهودهم سدى.. وعليهم أن يدركوا أن القليل من العمل مع المداومة والنظام خير من الكثير مع الفوضى والانقطاع.
وهنا حان الوقت لنغادر هذه المحطة.. وحتى نحط رحالنا في محطتنا القادمة بإذن الله.
عودة الى دروس في الدعوة
|