|
الإمام مالك ابن أنس نموذج للعلاقة بين العالم والحاكم بقلم / هشام النجار
- أما هو فإمام دار الهجرة ، وأحد أعلام هذه الأمة المشهورين ، بذل رحمه الله كل شيء في سبيل طلب العلم ؛ قال ابن القاسم : " أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته ، فباع خشبه ثم مالت عليه الدنيا بعد " .
- يصفه الإمام أبو حنيفة قائلا : " انه أشقر أزرق " ، وكان رحمه الله حسن الصورة ، طويلا جسيما ، شديد الهيبة ، عاقلا حكيما ، أنعم الله عليه بالذكاء الحاد وبعد النظر والفطنة ، يقول عنه ابن مهدي : " ما رأت عيناي أحدا أهيب من هيبة مالك ولا أتم عقلا ولا أشد تقوى ولا أوفر دماغا من مالك "
- أما عن مكانته العلمية ؛ فقد أجمع العلماء وأئمة الدين على أنه يأتي في المقدمة ، وعلى أنه قدم خدمات جليلة في حفظ العلم من الضياع ؛ يقول ابن حجر عن كتابه الموطأ : " ويستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي ، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ " ، ويقول عنه الشافعي : " ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابا من كتاب مالك " ، ويقول الشافعي أيضا – وهو أحد تلامذته - : " لولا مالك وسفيان ابن عيينة لذهب علم الحجاز " .
- وعن حفظه وروايته ورسوخ قدمه في العلم قال الشافعي رحمه الله : " إذا ذكر العلماء فمالك النجم " ، وقال أيضا : " جعلت مالكا حجة فيما بيني وبين الله " ، وقال يحيى بن سعيد القطان : كان مالك إماماً في الحديث " ، وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : " مالك سيد من سادات أهل العلم ، وهو إمام في الحديث والفقه ، ومن مثل مالك متبع لآثار من مضى مع عقل وأدب ؟ " ، وقال عبد الله ابن المبارك : " لو قيل لي اختر للأمة إماما ً لاخترت لها مالكا " .
- وعن حرصه وأمانته وورعه وتحريه ودقته ، يقول ابن عيينة : " رحم الله مالكا ما كان أشد انتقاده للرجال والعلماء " ، وقال الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله : " قال مالك : ما جالست سفيها قط " .
- وللإمام مالك ابن أنس تجربة ثرية مع السلطة الحاكمة في عصره ، أرى من الأهمية أن نتعرف عليها ونتعلم منها ؛ فلقد آثر إمامنا الفاضل رحمه الله قبل كل شيء مصلحة وطنه وأمته ، مع رؤية حكيمة وعميقة للواقع وللظروف التي كانت تمر بها الأمة في عصره ، مستفيدا من تجارب السابقين ، مستخدما ما آتاه الله من حكمة وما وهبه من عقل .
- لم يكن الإمام مالك مداهنا يوما لحاكم أو أمير ، بل كان رحمه الله يبلغ علمه ولا يكتمه ، وان كان ذلك على غير هوى السلطة الحاكمة ، وان خالفت رؤيته وفتاواه سياسة الدولة ؛ ومثال على ذلك أنه كان غير راض عن ظلم الخلفاء العباسيين واغتصابهم السلطة وأخذهم البيعة بالإكراه ، فقد سأل مالك رجلا أندلسيا ذات مرة عن سيرة عبد الرحمن الداخل ، فأجاب الأندلسي : انه يأكل خبز الشعير ويلبس الصوف ، ويجاهد في سبيل الله ، فقال مالك : ليت أن الله زين حرمنا بمثله ، فنقم العباسيون عليه .
- وقال ابن عبد البر : ذكر الإمام أحمد بن حنبل أن مالكا كان لا يجيز طلاق المكره ، فضرب في ذلك ، يقول ابن خلدون في المقدمة : " .. ولهذا لما أفتى مالك بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ، ورأوها قادحة في يمين البيعة ، ووقع في محنة الإمام " .
- وعن هذه المحنة يقول ابن عبد البر : " لما دعي مالك وسمع منه وقبل قوله شنف الناس له وحسدوه ونعتوه بكل شئ ، فلما ولى جعفر بن سليمان على المدينة ، سعوا به إليه ، وكثروا عليه عنده ، وقالوا : لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشئ ، وهو يأخذ بحديث في طلاق المكره أنه لا يجوز ، ويحدث بحديث ( وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ، فغضب والى المدينة ، وقد كان ذلك في عهد الخليفة أبى جعفر المنصور ، فدعي مالك وحده وضربه بالسياط ومدت يداه حتى انخلع كتفاه وارتكب منه أمرا عظيما " .
- يقول ابن خلكان عن واقعة ضرب الإمام مالك : " فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة ، وكأنما كانت السياط حليا حلى به " ، ويقول ابن الجوزى – كما في شذور العقود - : " وفيها – أي في سنة سبع وأربعين ومائة – ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان " .
- رغم هذه السابقة ، ورغم الإيذاء البدني الذي وصل إلى سبعين ضربة بالسوط على جسد الإمام ، إلا أن ذلك لم يدعه إلى التحريض على السلطة الحاكمة والخروج عليها ، فكانت رؤية الإمام مالك هي عدم الخروج على من تغلب من الأئمة ، وكان يرى أن المفسدة في ظلم أولى الأمر إذا رافقه استقرار سياسي واستتباب للأمن أخف وأهون من المفسدة التي تقترن بالعنف والخروج والثورة ، وما يصاحب ذلك وما يعقبه من قتل ودماء ومطاردات وصراعات وتضييق وفوضى وعدم استقرار .
- والإمام مالك لم يؤيد خروج محمد النفس الزكية في المدينة المنورة على أبى جعفر المنصور سنة مائة وخمس وأربعين ، ولزم بيته ولم يؤيد الخارجين ولم يدعمهم برأيه ، كذلك لم يؤيد خروج إبراهيم أخو محمد النفس الزكية في البصرة في نفس السنة ، وكان مستند الإمام مالك في عدم الخروج على الحاكم المتغلب بالقوة هو رجحان المفسدة في الخروج ، وأن الثورة والخروج على الحكام - وان ظلموا وأجبروا الناس على البيعة وأكرهوهم على الطاعة – يفرق شمل الأمة وينشر الفوضى .
- ولقد حدث بالفعل ما حذر منه الإمام مالك ؛ فبعد خروج محمد النفس الزكية حاصر عيسى بن موسى – وهو قائد جيش أبى جعفر المنصور – المدينة ، واستبيحت مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقتل العباسيون أبناء المهاجرين والأنصار ، واضطهد آل على بن أبى طالب – رضي الله عنه – وقيدوا وجلبوا إلى العراق ، وقضى على الخارجين والثائرين ، وقتل محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم رحمهما الله تعالى .
- والإمام مالك لا يرى بأسا من قتال العدو تحت راية الحاكم الظالم والمتغلب بالقوة ؛ يقول في المدونة الكبرى : " لو ترك هذا لكان ضررا على أهل الإسلام " .
- لم يقف الإمام مالك رحمه الله موقف الخصيم المعادى للسلطة الحاكمة ؛ فهو رغم كل ما حدث معه من قبل والى المدينة ، ورغم ما قد يشاع بين الناس أنه يغشى السلاطين ويجالسهم ويكثر من الدخول عليهم ، إلا أنه ألغى مصلحته الشخصية وآثر مصلحة أمته في مناصحة الأمراء وبذل المشورة لهم ؛ قال له أحد تلامذته يوما : " إن الناس يستكثرون أنك تدخل على الأمراء ، فقال : إن ذلك بالحمل على نفسي وذلك أنه ربما استشير من لا ينبغي " .
- إذن الإمام لا يريد ترك المجال وتهيئة المناخ للجهال والفساق ، ويعمل على عدم احتكار أهل الفساد للشورى لدى الأمراء .
- ومن أمثلة نصحه للحكام وحثه إياهم على مصالح المسلمين ما قاله عتيق بن يعقوب : " كان مالك إذا دخل على الوالي وعظه وحثه على مصالح المسلمين ، ولقد دخل يوما على هارون الرشيد فحثه على مصالح المسلمين وقال له : لقد بلغني أن عمر بن الخطاب كان في فضله وقدمه ينفخ لهم عام الرمادة النار تحت القدور ، يخرج الدخان من لحيته وقد رضي الناس منكم بدون هذا ، ودخل عليه مرة وبين يديه شطرنج منصوب وهو ينظر فيه ، فوقف مالك ولم يجلس ، وقال : أحق هذا يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا ، قال : فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ فرفع هارون رجله وقال: لا ينصب بين يدي بعد " .
- وقال الحنينى : " سمعت مالكا يحلف بالله : ما دخلت على أحد من السلاطين إلا أذهب الله هيبته من قلبي حتى أقول له الحق " .
- وفى إطار هذه العلاقة المتوازنة التي أقامها الإمام مالك مع السلطة الحاكمة ، والتي كان يسعى من خلالها لتحقيق مصالح الأمة ، شارك الإمام في هذه السلطة ، وقبل تولى منصب الإفتاء فيها ، فأمر أبو جعفر أن ينادى : " ألا يفتى في المدينة إلا مالك ابن أنس وابن أبى ذئب " .
- بل استحدث له أبو جعفر المنصور – بعد اعتذاره له عما حدث في المحنة وبعد أن أخبره أن من فعل ذلك نال أشد العقاب – استحدث له منصبا جديدا ، يكون مالك بمقتضاه الرجل الثاني في الخلافة ؛ فهذا المنصب الهام يخوله محاسبة جميع ولاة الحجاز وقضاتها .
- هكذا حظي هذا العالم الجليل بمنصبين في غاية الأهمية في الدولة ، وحظي قبل ذلك باحترام الجميع وعلى رأسهم الخليفة – وهو رأس السلطة الحاكمة – الذي كان يبالغ في توقير واحترام ذلك العالم الجليل المهيب ؛ فلا يكاد يراه حتى يناديه : " إلى هاهنا يا أبا عبد الله ، أنت حقيق بكل خير وإكرام " .
- من المواقف الرائعة لهذا الإمام الجليل ، والتي تدل على عظيم قدره وعلو شأنه وترفعه على هوى نفسه ؛ عندما جاء الناس يبشرونه بأن أبا جعفر المنصور قد نال من جعفر بن سليمان والى المدينة ، الذي ضربه وآذاه في محنته ، فقال مالك : " سبحان الله أترون حظنا مما نزل بنا الشماتة به ، فانا نخشى من عقوبة الله أكثر من هذا ونرجو من عفو الله أكثر من هذا ، وقد ضرب فيه محمد بن المنكدر وربيعة وابن المسيب ، ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر ، وإني والله تخوفت أن أموت يوم المحنة فألقى النبي – صلى الله عليه وسلم – فاستحى منه أن يدخل بعض آله النار بسببي ، وقد أشهدت الناس بعد إفاقتي أنى جعلت ضاربي في حل " .
- وهذا موقف آخر يدل على تجرد الإمام مالك رحمه الله وإخلاصه وصدقه وتقديمه مصلحة دينه وأمته على أي مصلحة أخرى ؛ فقد طلب منه الخليفة أبو جعفر المنصور أن يجمع الناس على علم واحد ، فقال الإمام مالك : " يا أمير المؤمنين ، إن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تفرقوا في البلاد ، فأفتى كل في مصره بما رآه ،إن لأهل هذه البلاد قولا ولأهل المدينة قولا " ، فقال أبو جعفر : " يضرب عليه عامتهم بالسيف ، وتقطع عليه ظهورهم بالسياط " ، فقال مالك : " يا أمير المؤمنين لا تفعل ؛ فان الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وروايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودالوا له من اختلاف أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وغيرهم ، وان ردهم عما اعتقدوا شديد ، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم " .
- رحم الله مالكا ؛ فقد كان فقيها مجتهدا تقيا ورعا مخلصا لدينه ودعوته ، مقدما مصلحة أمته على غيرها وان كانت مصلحته الشخصية .
- وفى وفاته يقول بكر بن سليمان الصواف : " دخلنا على مالك ابن أنس في العشية التي قبض فيها ، فقلنا له : يا أبا عبد الله كيف تجدك ؟ قال : ما أدرى كيف أقول لكم ، إلا أنكم ستعاينون غدا من عفو الله ما لم يكن في حساب ، ثم ما برحنا حتى أغمضناه رحمه الله "
-وقيل : انه تشهد ثم قال : لله الأمر من قبل ومن بعد .
المصادر
- تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك جلال الدين السيوطي
- تذكرة الحفاظ الذهبي
- صفة الصفوة ابن الجوزى
- حلية الأولياء أبو نعيم الأصبهانى
- مالك.. حياته، عصره، آراؤه وفقهه محمد أبو زهرة
- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب إبراهيم بن فرحون
بقلم/ هشام النجار
عودة الى الذين سبقونا
|