|
- ثمامة بن آثال الحنفي -
بقلم/ عصمت الصاوي
وما أن انتهى صلح الحديبية.. وعاد المسلمون إلى المدينة أدراجهم حتى بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يعيد ترتيب دولته وصياغة دعوته فخرج صلى الله عليه وسلم بدعوته من الإقليمية حيث المدينة ومكة وما جاورهم إلى العالمية حيث بدأ في مراسلة الملوك والأمراء.. فهذه رسالته إلى كسرى وتلك رسالته إلى قيصر وهذه إلى رستم.. وأخرى إلى المقوقس.. أما هذه.. فرسالته إلى ثمامة بن آثال الحنفي.. ولا عجب أن يكون ثمامة بن آثال الحنفي رجلاً من هؤلاء فهو ملك من ملوك العرب المعدودين.. وسيداً من أسيادهم المرموقين.. فهو سيد من سادات بني حنيفة.. وملكا من ملوك اليمامة.. تلقى ثمامة بن آثال الحنفي.. رسالة النبي الكريم بالازدراء والإعراض رغم فطانة عقله وحسن تدبيره ومنطقه بل لم يكتف ثمامة بهذا الحد.. إنما قاوم نفسه التي راودته على قتل الرسول وغالبها حتى غلبها ولم تكتف بذلك نفسه وشيطانه وإنما أغروه لقتل النبي الكريم ليرتكب بذلك أشنع جرم يمكن أن يقدم عليه إنسان.. وثارت في نفسه ثورة على الدين الجديد ومحمد صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع لها دفعاً.. ولم يحاول لها رداً وإنما ترك هواه وشيطانه يقودانه إلى حيث قتل المسلمين والتنكيل بهم.. وبلغ من شره واستفحال أمره مبلغاً دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أهدر دمه.. دفعاً لشره وإنهاء لحقده وثورته على الإسلام والمسلمين.. وخرج ثمامة بن آثال الحنفي متجها صوب مكة ميمماً وجهه صوب أوثانها وأحجارها.. ممنياً نفسه بلقاء ساداتها وأشرافها.. فلثمامة على أهل مكة جميعهم فضل أيما فضل فهو ملك من ملوك اليمامة.. ومسيرة قريش كلها تأتيهم من تحت يد ثمامة وبأمره فبدونه يجوعون ويهلكون.. وبينما هو في الطريق.. إذا بسرية من سرايا المسلمين تلتف حوله وتأخذه.. ويسير معهم ثمامة دون مقاومة تذكر.. فهو الهالك لا محالة وما أن يصل به المسلمون لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يربطوه على إحدى سراياه.. ولم يشك أن ثمامة وهو على سارية المسجد انه عائد إلى أهله وذويه.. بل هو المقتول حتما فقد آذى الرسول.. وعادى المسلمين وقتل منهم من قتل.. وأصاب من دمائهم ما أصاب فلم يجل بخاطره أنه ناج أبداً.. ولكن الرحمة المهداة.. محمد صلى الله عليه وسلم لم يبعث قتالاً.. سفاكاً للدماء.. وإنما بعث رحمة للعالمين.. فما أن خرج النبي إلى المسجد حتى رأى الأسير على سارية المسجد.. فقال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من أخذتم؟), قالوا: لا يا رسول الله, قال: (هذا ثمامة بن آثال الحنفي!! فأحسنوا إساره), وعاد النبي الكريم إلى بيته دون أن يلقاه وأمرهم أن يجمعوا ما عندهم من طعام وبعث به إلى ثمامة.. ثم أمر بناقته أن تحلب في الغدو والرواح وأن يقدم لبنها إلى ثمامة.. كل ذلك تم قبل أن يلقى النبي ثمامة ويرى ثمامة بن آثال الحنفي هذه المعاملة الكريمة ممن سبهم وآذاهم وأصاب منهم الدماء إنه الدين الإسلامي العظيم.. بأخلاقه العلمية النبيلة فليست أخلاقه وآدابه إدعاء.. حتى إذا اصطدمت بالواقع تغيرت وتبدلت وعاملت الأسرى أشد معاملة وأقساها.. إنما الدين العظيم.. والأخلاق الإسلامية السمحة تتجسد في معاملة المسلمين لأسيرهم ثمامة.. يرى ثمامة أناساً.. قد نزع الغل من صدورهم فلا مكان فيها إلا للرحمة والشهامة والمروءة.. وتضع هذه المعاملة الكريمة هوة عظيمة بين ثمامة ومعتقداته وديانته ويتحدث في نفسه أهؤلاء من كنت أقتل منهم وأضيرهم؟!, وتتصاغر أمامه نفسه.. ويذوب خجلاً من هؤلاء كلما أكرموه وبالغوا في إكرامه حتى تمنى في نفسه لو كان هؤلاء غلاظ القلوب حتى يستريح من عتاب نفسه ولومها.. ودخل النبي الكريم على ثمامة بن آثال الحنفي حتى وقف عليه قائلا: (ما عندك يا ثمامة؟!), فقال.. عندي خير يا محمد.. إن تقتل تقتل ذا دم.. وإن تنعم تنعم على شاكر.. وإن كنت تريد المال فسل تعطه.. فتركه النبي صلى الله عليه وسلم على حاله.. ثم عاوده بعد يومين قائلاً: (ما عندك يا ثمامة؟!), فقال: ليس عندي إلا ما قلت يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم.. وإن تنعم تنعم على شاكر.. وإن كنت تريد المال فسل تعطه.. فتركه النبي صلى الله عليه وسلم وأتاه في اليوم التالي قائلا: (ما عندك يا ثمامة؟!), قال: ما قلت لك يا محمد.. إن تقتل تقتل ذا دم.. وإن تنعم تنعم على شاكر.. وإن كنت تريد المال فسل تعطه.. فالتفت النبي الكريم إلى أصحابه.. وقال: (أطلقوا ثمامة), ويفك الصحابة قيوده.. ويخرج من مسجد رسول الله وينطلق دون أن يلتفت خلفه.. وينبئنا موقف ثمامة.. عن قوة في صف المسلمين الداخلي فثمامة بن آثال هو.. من هو.. قتل من المسلمين وأصاب منهم دماً.. وما أن أمر النبي بحسن معاملته بل وإطلاق سراحه.. حتى وجدنا الصف الإسلامي كله لحمه واحد ونسيج واحد.. فلم نسمع حتى أهل الدم.. وأولياءه.. يتذمرون أو يتهمون قادتهم بسوء التصرف أو التفريط في حقهم وإنما هو الكيان المتكامل والثقة المطلقة وينطلق ثمامة.. ولا يظن المسلمون أنه يعود!!.. ولكن البر لا يبلى والخير لا يفنى!! فما أن وصل ثمامة إلى محل قريب حتى أناخ راحلته ونزل وتطهر ثم عاد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده قلبه النقي.. فما أن بلغه حتى وقف على مشهد من المسلمين قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, ثم اتجه إلى الكريم.. محمد صلى الله عليه وسلم ونظر إليه قائلا.. والله ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك.. وقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ .. والله ما كان على ظهر الأرض دين أبغض إليّ من دينك.. فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ.. والله ما كان بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ ..ثم قال: لقد كنت أصبت في أصحابك دماً فما الذي توجبه علي؟!, قال: (لا تثريب عليك يا ثمامة.. فإن الإسلام يجب ما قبله), فقال ثمامة.. والله لأصيبن من المشركين أضعاف ما أصبت من أصحابك ولأضعن نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك.. ثم قال: يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة!!, فما تأمرني أن أفعل؟!, قال: (أمض لأداء عمرتك ولكن على شرعة الله ورسوله), ثم علمه المناسك كلها.. ويدخل ثمامة في دين الله ونوره وهداه.. ويلقى على المسلمين تبعات عظيمة.. فثمامة بن آثال الحنفي شأنه شأن كل رجل لا يعرف عن الإسلام إلا ما يسمعه من أبواق كاذبة تطمس معالمه وتشوه وجهه الصحيح إنما التبعة التي ألقاها ثمامة على المسلمين.. هي أن يتحركوا بدينهم ليرى الناس أخلاق الإسلام تتجسد في أصحابه.. ليرى الناس سماحه الإسلام وعظمته ليرى الناس وجه الإسلام المشرق الوضاء فمن المحال.. أن يرى ثمامة كل هذه الأخلاق السامية ويظل على كفره وعناده ومن المحال أن يرى الناس عدل الإسلام وعظمته ويظلون على معتقداتهم الباطلة عن الإسلام.
ويمضي ثمامة إلى غايته ليعتمر.. وما أن بلغ أعلى مكة.. حتى وقف على أهلها ملبياً: (لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك).
فكان رضي الله عنه أول مسلم على وجه الأرض يدخل مكة ملبياً وانتفضت قريش.. وهمّ رجالاتها من كل حدب وصوب ويمموا وجوهم صوب الصوت ليقتلوه.. وما أن تبينوا معالمه.. حتى تسمّرت أيديهم على سيوفهم فلا السيوف تتحرك ولا الرماح تنطلق وإنما صوت التلبية.. لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. هو المهيمن على الموقف.. المنتشر في الآفاق وتحدت الكلمات.. تريثهم وعقلهم فهمَّ أحدهم أن يرديه بسهم فيقتله!!.. فأخذ الكبراء على أيديه وقالوا: ويحك!!, أتدري من هذا؟!, إنه ثمامة بن آثال الحنفي والله إن أصبتموه قطعوا الميرة عنا فأماتونا جوعاً!! فتقدم السادات إليه.. ما بك يا ثمامة!!؟ أصبوت وتركت دينك ودين أبائك!!؟, قال: والله ما صبوت ولكني أتبعت خير دين.. اتبعت دين محمد ثم نظر إليهم نظرة عظمة وكبرياء ثم قال: (والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى تتبعوا محمداً أو يأذن فيها رسول الله), ثم تركهم ومضى إلى عمرته حيث أمره رسول الله وعلمه وعاد ثمامة إلى اليمامة.. ومنع الميرة عن قريش وأزداد حالهم سوءاً بعد سوء وشدة بعد شدة حتى فشا الجوع واشتد الكرب.. وعظم البلاء فراسلوه وفاوضوه.. وفي كل مرة يجيبهم: (والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى تتبعوا محمداً أو يأذن فيها رسول الله), وعلمت قريش أن ثمامة ماض في قسمه غير حانث فيه فلجئوا إلى رسول الله وناشدوه الله والرحم قائلين: ننشدك الله والرحم يا محمد.. فإنا عهدناك أنك تصل الرحم وتحض على ذلك وها أنت قد قطعت أرحامنا فقتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع وإن ثمامة بن آثال قد قطع عنا ميرتنا وأخذ بنا فإن رأيت أن تكتب إليه ليبعث إلينا ما نحتاج إليه فافعل!!, فكتب النبي إلى ثمامة أن يطلق لهم ميرتهم ففعل.. لك الله يا رسول الله - أليست هذه قريش التي قطعت عنك وأصحابك الطعام والشراب ثلاث سنوات متواليات - أليست هذه قريش التي ألجأتكم إلى شرب الأبوال وأكل أوراق الشجر .. أليست هذه قريش التي حاصرتك السنين الطوال في حرب قذرة لا علاقة لها بالشرف والإنسانية.. ألم يمت أطفال المسلمين في شعب أبى طالب جوعا وعطشاً.. ألم تسمع قريش من خلف الشعب عويل النساء وصراخ الأطفال جوعاً.. إن الكفر كله ملة واحدة.. حرب قذرة لا هوادة فيها ولا رحمة.. حرب تخالف كل أعراف الإنسانية ومبادئ الآدمية.. ولكن الإسلام السمح الحنيف.. سيوفه لها أخلاق فلا تقابل الفجور.. بالفجور ولا تقابل الظلم.. بالظلم ولا علاقة للنساء والأطفال والشيوخ بساحات الحرب وأماكن القتال.. أرسل النبي الكريم إلى ثمامة أن أطلق لهم طعامهم وشرابهم وما يحتاجون إليه.. وظل ثمامة بن آثال العظيم على عهده مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيا لدينه.. مخلصا لرسوله.. مجاهدا في سبيل الله حتى تأتي الفتنة العظمى لأهل اليمامة - مسيلمة الكذاب - وطفق الناس يتبعونه واحدا تلو الأخر أفرادا وجماعات.. فانتفض في وجهه ثمامة.. يعاديه وينتقصه فقال في قومه: يا بني حنيفة إياكم وهذا الأمر المظلم الذي لا نور فيه.. إنه والله شقاء كتبه الله على من أخذ به منكم ثم قال: يا بني حنيفة.. لا يجتمع نبيان في وقت واحد.. وان محمدا لا نبي بعده.. ولا نبي يشرك معه.. ثم قرأ: (حم*تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
ثم قال أين كلام الله هذا من قول مسيلمة: يا ضفدع يا بنت الضفدعين.. نقي ما تنقين لا الشراب تمنعين.. ولا الماء تكدرين.. ثم أنحاز رضي الله عنه بمن معه على الإسلام إلى صفوف المسلمين ومضى يقاتل في سبيل الله مسيلمة ومن معه.. مضى يقاتل المرتدين ومن تابعهم مضى يقاتل في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصرة دينه فرضي الله عن ثمامة بن آثال الحنفي واسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً..
عودة الى الذين سبقونا
|