|
الشيخ الشعراوى كما عرفته أطمئنوا لن يحوج الله بعضي إلى بعضي بقلم/ محمد بدر ضابط جيش سابق
قلت له: عد بنظام الحكم إلى ما قبل يوليو 1952وأضاف الشيخ شارحا ً ما قاله للرئيس ذات يوم أنت اتخذت قرار الحرب في أكتوبر وهذا كاف ليخلدك في التاريخ وأعدت الأحزاب إلى ساحة العمل السياسي وهذا يحسب لك أيضا ً..لا تكن رئيسا لأي حزب وأجعل الحزب الذي يحصل على الأغلبية في الانتخابات يأتي ليحكم.. فقط قم بدور المراقب للحكم من خلال منصبك كرئيس.
كنا جلوسا كعادتنا في تلك الأيام في مكتب الحاج أحمد أبوشقرة في مطعمه الشهير بشارع القصر العيني.. حيث كان الشيخ يلتقي بمحبيه ومريديه عند صلاة المغرب ويمتد بنا اللقاء حتى منتصف الليل.
وأستطرد الشيخ وكان يتحدث عن بعض ما دار بينه وبين الرئيس السادات فترة تولى الشيخ وزارة الأوقاف:
مر على هذا الحديث زمن – لم يحدده الشيخ – وإذا بالرئيس عقب أحد الاجتماعات في القناطر الخيرية وبينما كنت أهم بالانصراف سمعت صوت السادات ينادى على فالتفت.. فأشار إلىَّ أن أقترب منه.. واقتربت فهمس في أذني قائلا ً: "يا شيخ شعراوى لن أترك الحكم حتى أمحو كل أثر في مصر لثورة يوليو".
وأكمل الشيخ مشيرا ً إلى خصوم السادات في مايو (٧١) استهتروا به فوضعهم في السجن.. قلتها لوجيه أباظة في بداية حكم السادات عندما سألته: أخباركم إيه مع الرئيس الجديد ؟
فأجابني السيد وجيه: تحب أقوم أجيبه لك متكتف.
فقلت له: إنتوا مادمتم استهترتوا بيه والله ليحطكم في السجن كلكم.
لم تمض أيام قليلة حتى حضر السيد وجيه أباظة وكان من محبي الشيخ وبدا من اللقاء أن علاقة ود حميم تربطهما أشار إليها السيد وجيه أباظة قائلا ً:
أنا لم أقبل يد أحد بعد والدي إلا الشيخ الشعراوى وعم سيد جلال "كان أحد الحضور".. وذكر لهما بالعرفان إصرارهما على زيارته في السجن.. داعبه الشيخ مبتسما ً: موش أنا قلت لك يا سى وجيه.. فاكر.
أبتسم السيد وجيه أباظة: فاكر يا مولانا.. وأعاد ما رواه الشيخ.
(٢)
وعندما هبت عواصف سبتمبر (٨١) منذرة بخريف تحيط به كثير من المخاطر.. حيث كانت العلاقة بين الرئيس السادات والشعب المصري قد وصلت إلى طريق مسدود.. بدا كل المحيطين بالشيخ من أبناءه وأحبابه تنتابهم حالة من القلق عليه.. وخاصة بعد أن رفض الشيخ الشعراوى أن يكون أداة لامتصاص غضب الناس على الرئيس السادات.
رفض عرضا من الرئيس أن يأتي شيخا ً للأزهر.. وأحتج قائلا ً بلهجة بدت إلى التهكم أقرب منها إلى التحجج قائلا ً: "وشيخ الأزهر اللي موجود هتعملوا فيه إيه".
قالوا: "يعفيه الرئيس بحجة مرضه".. ورفض الشيخ وأصر على رفضه.
طلب منه كل المحيطين به من أبناءه وأحبابه أن يتناوبوا المبيت معه ورفض بإصرار وردد تعبيرا ً لم يزل محفورا ً في ذاكرتي: "أطمئنوا لن يحوج الله بعضي إلى بعضي".
فقط كان كل الذي على لسانه في تلك الأيام والذي كان دائما ً يردده: "يا لطيف.. يا لطيف".. بل لعله كان في بعض الأحيان يطلب من الجالسين حوله.. قولوا: "يا لطيف" وكانت ظاهرة إلى حد الملاحظة.
سافر الشيخ بعد ذلك إلى مدينة الإسكندرية وقد أصدر الرئيس في ضمن ما أصدر من قرارات بدت عصبية ومرتبكة.. قرارا ً بإيقاف أحاديث الشيخ الأسبوعية.
طالت فترة إيقاف الأحاديث وانهالت العروض وتوالت من كثير من دول الخليج تضع كل إمكانياتها وأجهزتها رهن موافقة الشيخ لاستئناف أحاديثه وخواطره من أراضيها وعبر أجهزتها الإعلامية كان أبرزها عرضين سعوديين أحدهما حكومي.. والآخر من الشيخ صالح كامل وهو وكل أسرته من أصدقاء المقربين بل والمحبين.
وذات مساء كنا نعبر ميدان التحرير- الشيخ وأنا أقود سيارتي - قاصدين مدخل شارع قصر النيل.. أن أحاط بالسيارة جمع غفير.. وكان لافتا أن غالبيتهم من الشباب حديثى السن -"صبيانا" إن صح التعبير- ولم يكن لهم سوى مطلب واحد "متى تعود حلقات التفسير؟".. غادرناهم فقلت:
"من أجل هؤلاء الشباب وهم هدفك.. أتمنى أن تقبل ماهو معروض على فضيلتك".
حسم الشيخ الأمر قائلا ً: "لن أسجل خواطري إلا في مصر وعبر إعلامها".
ذهبت إلى مدينة الإسكندرية في اليوم التالي لحملة الاعتقالات الشهيرة للاطمئنان على الشيخ ولم تمهلني أشواقي إلى الشيخ بعض الوقت لتغيير بدلتي العسكرية.. وصلت إلى شقة الشيخ صباحا ً وكان بصحبته ابنه الأكبر الشيخ سامي.. اتصل بواحد من أحبابه.. الصديق محمد الكيك.. طالبا ً أن يحضر بسيارته لمرافقة الشيخ فى الذهاب الى طنطا.
قدت السيارة.. وجلس بالمقعد الذي بجانبي الشيخ سامي.. وفي المقعد الخلفي جلس الشيخ الشعراوي.. وبجانبه محمد الكيك.. وبطبيعة الحال كان وجود الشيخ فى السيارة ونحن نتحرك في شوارع الإسكندرية قاصدين الطريق الزراعى لافتا ً لانتباه الناس.. فبدت حركتهم موافقة لحركة السيارة.. إما بالإسراع بتحيته حال حركتها.. أو بالالتفاف حولها وحوله حال توقفها – تلك الشعبية الجارفه والجماهيرية الواسعه كانت سمة للشيخ الجليل وعصره لم يسبقه فيها سوى الزعيم الراحل.. والخالد جمال عبد الناصر -.
ابتسم الشيخ وبدا أنه قد اكتشف أنني أرتدي زياً عسكرياً وقال مداعباً:
"دلوقتي كل اللي يشوفك هايفتكرك جاى تقبض عليّ".
قلت: "لا عاش ولا كان اللي يمسّك يا مولانا".
قلتها وأنا مأخوذ بمساحة المشهد الكامل للارتباك والتخبط للرئيس السادات.. والذي لامس حدود العمى السياسي.. أدى به إلى وضع الشيخ وخواطره حول القرآن الكريم ضمن قائمة خصومه.
غمغمت.. وربما فكرت بصوت يبدو أنه كان مسموعا ً بما جال بخاطري.. أجابني الشيخ.. وربما عبر أيضا عما جال بخاطره.. وكأنه فكر بصوت بدا مسموعا ً وواضحا ومطمئنا ً:
"أنت عايز البلد كلها تبقى فى ناحية .. وأنا لوحدي في ناحية.. قل الحمد لله".
وصلنا إلى بيت "د/ عبد الحي مشهور" وكان رئيسا ً لجامعة طنطا.. وأمتد بنا الحديث.. وعند المساء انتقلنا إلى منزل "د/ محمود جامع" وكان معروفا بعلاقته بالرئيس السادات.
وأمتد الحديث عن ما تشهده مصر من أحداث من منزل "د/ عبد الحي مشهور" إلى منزل "د/ محمود جامع".
فجأة وبلا مقدمات ألتفت الشيخ إلى د/ محمود جامع – والذي كان دائم التباهي بعلاقته بالرئيس السادات - قائلا ً وبالنص:
"واد يا محمود..ربنا يا واد بيعلم عباده النصاحة.. وبيقول لهم: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)".
وأردف الشيخ:
"ما تتكلش على حد تاني ليفطس منك الصبح" وكانت النبوءة الثانية للشيخ الشعراوي عن الرئيس السادات أكدتها أيام عدة.. ربما أقل من شهر.
الخميس الموافق:
3-11-1433هـ
20-9-2012م
عودة الى الذين سبقونا
|