|
عربة الفول بقلم/أيمن الجندي
وصلتني هذه القصة الجميلة من الدكتور/ محمد أشرف حماد
لم تكن عربة الفول تلك بعيدة عن مسكني أبدا.. كنا شتاءً والجو بارد فى ذلك الوقت المبكر من الصباح والعصافير لا تبارح أغصانها ولم تفرض بعد حضورها الباهر على صفحة السماء.
لطالما أحببت تلك العربة.. كنت أحس أن لطعامها الفقير معنى ولبصلها نشوة إذ يذوب فى فمي، ولخبزها الأسمر الخشن ملمس قطيفة تنسكب.. وتذكرت صاحبها العجوز وكيف كانت ميتته نسيا منسيا.. فقط كف عن التواجد هناك ولم أر العربة أسبوعا وافتقدته وافتقدت العربة.
أحسست أن شيئا في روحي قد نُزع وأن بركة صباحى حلت عليها الكآبة المقبضة.. حتى سألت العالمين ببواطن الأمور ممن خبروا الحي، فقالوا بخبرة من عرك الأشياء حتى أنهتكه: «عم راضى مات يا أستاذ، البقية فى حياتك».
هكذا ببساطة!.. كأنهم يقررون أن الزحام اليوم كثيف أو يطالعون الصحف فى سأم. حتى هذا الصباح إذ لمحت العربة تقف على استحياء بناصية الشارع، كأنها تستأذن صاحبها فى قبره البعيد المترب أن تستمر الحياة حشوت صدرى بهواء تلك الساعة، وامتلأت نفسي بغبطة شفافة لا أدرى مصدرها وسرت الهوينى حتى العربة، ثم ملأت عيني من لونيها الأحمر والأخضر يتمازجان برقة بسيطة مبهرة، وعبارة «كريم يا رب» تتوسطها، حتى بدت كأنها عروس تُزف ليلة صيف عند العربة.
وجدت شابا ضئيل الجسد يحتل المسافة الضيقة بين الرصيف الأسمنتي وظهر العربة الخشبية المتهالكة التى تتكأ فى تمايل على جانب الإفريز المهشم.
أظنه ابنه وقد تسلم باب الرزق منه اتخذت مكانى بخفة وسط زحام قليل وقلت «ساندويتشين فول بالطحينة يا كابتن» ثم مددت يدي ببعض النقود إلى الشاب.
كان صغير الحجم ضئيل القد لا يكاد يبين، يختفى جسده خلف معطف رث داكن اللون كالحة .. بدا كأنه يصلح للجنود على الجبهة فى حروب الاستنزاف ويختفى وجهه تحت قبعة سميكة قبيحة كقبعات البحارة فى الميناء.
مكثت واقفا لفترة قبل أن يتملك الضجر منى وهو مصّر على تجاهلي كأن لم أكن..لم يرفع وجهه تجاهي ولم ينظر إلى ما تيسر منى تذكرت صديقي العجوز الغابر الذى وأراه التراب الهش، وكيف كان يفضلنى على من سواى،ويداعبني بقوله «أحلى ساندويتشين فى الدنيا ليك يا دكترة».
اشتعل الحنق برأسي عنوة وأحسست لوهلة أنى قد كرهت العربة وكرهت سعادتي الوقتية.. وأن طائرا غليظ المنقار قد حط على رأسي ونقرها حتى تأوهت مستاءً ثم انتزع منى مسببات فرحى وفر هارباً لا يلوى على شيء ومضيت أقول «خلصنى يا بني خلص يابنى بقي».
رفع الفتى الضعيف وجهه فى تؤدة منكسرة، وطالعتنى عيناه العسليتان وخطوطه الناعمة ووجهه الرقيق، قبل أن يقول فى ضعف: « أنا بنت يا أستاذ! أنا بنت».
الاثنين الموافق
2- رمضان 1435
30-6-2014
عودة الى قصة قصيرة
|