|
القصة الفائزة بالمركز الخامس .. اللّقيمات الحانية
بقلم/ غادة يسري محمد
"لابد من القيام بذلك ... مهما كلّف الأمر"!!
قال ذلك في نفسه.. كنوع من التشجيع الداخلي للقيام بأمر يلح عليه منذ فترة طويلة.
ارتدى أفضل ما استطاع من ثياب.. نظر عشرات المرّات إلى المرآة المكسورة المعلّقة في إهمال في غرفة نومه البسيطة.
وقبيل خروجه من المبنى الآيل للسقوط الذي يسكن فيه مع أمّه في إحدى شققه الصغيرة جدا ً.. أصرّ على تلميع حذائه المتماسك بصعوبة.. متفحصاً إيّاه.. فقد أمضى وقتا طويلا من الليل يعالج ما به من عيوب وينظّفه بكل دقّة.
لحظة غلقه لباب الشقة.. سمع ذلك الصوت الحنون يناديه:
"أحمد.. يا بنيّ.. أنت لم تتناول أي طعام وقد قارب الوقت على العصر..
أما من لقيمات يقمن أودك؟"
بدا وكأنه قد انزعج.. فأجاب بكل ضيق:
"اليوم هو الجمعة.. يوم أجازتي.. فلن أحتاج لذلك الطعام الذي يعينني على العمل!"
وانطلق غير عابئ بنظرة حزينة ارتسمت على وجه أمّه المليء بأخاديد الزمن وآهاته.
وصل أخيرا.. تسارعت ضربات قلبه.. فيما كان يخطو بإصرار لا تصاحبه ثقة.. نحو المدخل.. فتح الباب الزجاجي بكف يده اليمنى الغارقة في العرق والارتجاف.
دخل.. تساءل في نفسه بينما هو يتجه إلى أقرب كرسيّ اعترضه:
"لماذا أحس بأن الجميع يحدّق بي؟.
ربما يفعلون ذلك بكل من يدخل.. نعم ... هو فضول بكل تأكيد !"
حضر النّادل مسرعا ً.. و نظر إليه نظرة غير مريحة على الإطلاق.. ثم قال ببرود:
"تفضّل قائمة الطعام ! و بالطبع موضّح فيها: الحدّ الأدنى الذي ينبغي دفعه هنا!"
أجاب أحمد بكثير من الحيرة
" الحدّ الأدنى؟!!"
ردّ عليه النادل بنفاذ صبر:
"نعم ! عليك دفع خمسون جنيها في كل الأحوال.. سواء أكلت بها شيئا أو لم تأكل!"
انصرف النادل.. تاركا أحمد شارداً.. محدّثا نفسه:
"خمسون جنيها ؟.. أنا أستلم خمس جنيهات في اليوم لقاء عشر ساعات من العمل الشاق!.. لا تكاد تكفي لأي نفقات آدمية.. ومع ذلك فأنا أدّخر المبلغ منذ شهور لآتي إلى هنا.. إلى هذا المطعم الذي لطالما داعب خيالي كلّما مررت به - و لو مرة واحدة في حياتي !
خمسون جنيها كاملة من أجل لقيمات ؟؟
لكنّي أحس أن النظرات لا تزال تحوطني من كل جانب !"
اضطرب من هذا الإحساس.. من كونه مراقب.. فبدأ يًعدّل من بدلته الصفراء المخططة.. ورتّب المنديل الأحمر في جيبه من جديد.. ثمّ انحنى يرفع جوربه الأخضر وينفض الغبار بعصبية وتوتّر عن حذائه ذي اللونين الأبيض والأسود.
تذكّر كيف استعار ذلك القميص الورديّ من صديقه حامد.. دون أن يخبره بالطبع عن سبب حاجته للقميص.
بدأ بقراءة محتويات قائمة الطعام.. لم يفهم المسمّيات فهو بالكاد يعرف القراءة.. لكنه يفهم جيدا لغة الأرقام.. جنّ جنونه و هو يمرر عينيه بإحباطٍ رهيب ما بين سطور وصورٍ لما لذ وطاب من طعام وشراب !
شرد قليلا.. وأفاق على صوت النّادل يستعجله أن يطلب أي شيء ...نظر حوله .. لا زالت العيون تتربّص به !
فكّر ثمّ قال بحزم :
"شكرا ً"!
وسار نحو الباب غير عابئ بأي نظرات أو همسات..!
هرع إلى البيت.. أحسّ باحتضان درجات السلّم المتهالكة لحذائه المرقّع.. فتح الباب بلهفة شديدة.
خلع رابطة العنق الزرقاء التي كادت أن تخنقه، ثمّ وضع كيساً من البرتقال على الطاولة.. نظر إليها بحب، كان الحزن في عينيها قد انقلب إلى بكاءٍ مرير.
نظرت إليه أمّه في تساؤل قائلة:
"حمدا لله على سلامتك يا بنيّ "
جرى إليها .. يقبّل رأسها و يحتضنها في حنان قائلا ً:
"هل لي ببعضٍ من لقيماتك الشهيّة ؟"
**********
تعريف بالكاتبة
- هي الأديبة والكاتبة المصرية غادة يسرى محمد.
- حاصلة على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة.
- تكتب القصة والقصة القصيرة والخاطرة والشعر العامي.
ولها العديد من الأعمال المنشورة الكترونيا وورقيا من خلال بعض المجلات والمجموعات القصصية الجماعية.. وقد حصلت على العديد من الجوائز الأدبية في مجالات القصة والخاطرة وأدب الطفل.
وتشارك في الكتابة في سلسلة (روكيت) وهى سلسلة قصصية تصر عن دار الروضة للنشر والتوزيع.
وتعمل حاليا مشرفة على صفحة القصة القصيرة ومشرفة عامة على أقسام الكتابة بموقع أكاديمية ايجيبت رايت الأدبية.. ومراقبة لقسمي النصوص الإبداعية والخواطر بموقع ( نص) الأدبي.
رؤية نقدية
بقلم/ إسماعيل أحمد المحامى
اللقيمات الحانية والأحلام الصغيرة الموءودة
تتميز القصة القصيرة عن غيرها بقدرتها على تضخيم وتفصيل اللحظة العارضة من مشهدٍ قصير جداً.. يستطيع القاص أن يخلق عمقا وتفاصيل.. تشبه إلى حدٍ كبير حجرة ضيقة أبرزت حناياها وتفاصيلها مرايا متعددة علقت بجنباتها.
وهنا لحظة عابرة تنتهي في بضع كلمات دون أن تحرك مشاعر أحدٍ.. لكن الكاتبة خلقت من تلك اللحظة العابرة عمقا وتفصيلات نراها دائما لكن نسقطها من ذاكرتنا.
مفردات الفقر حذاء متماسك بصعوبة، مرآة مكسورة، بيت آيل للسقوط في مقابل باب زجاجي.
خمسون جنيها تخلق رسما كاريكاتوريا يبرز مأساة مجتمعنا.. يقارن بين درجة من درجات الفقر جمعتها بعالم الأغنياء.. أمنية صغيرة جدا لكنها كانت كفيلة بتسارع ضربات القلب وارتعاد المفاصل والخطوة المرتجفة الخائفة.
اللغة بسيطة ممتعة
انتقت الكاتبة مفرداتها بتلقائية من يعتاد ملامح الفقر المعتادة لكنها أكسبتها طعما مملحا من ابتكارها: متماسك بصعوبة، إصرار لا تصاحبه ثقة، مقارنة حسابية بين الخمسين والخمسة والعشر ساعات من العمل الشاق.
والكاتبة هنا غير متابعة لارتفاع أسعار العمالة، فليس في زماننا ساعة بنصف جنيه- احتضان درجات السلم للحذاء المرقع، وأخيراً اللقيمات التي اشتاق إليها من يد أمه العجوز- ذكرتني بكلمات شاعر صعيدي راحل: –
ما تقولش الفقر يابا.. دوه عاقد مع الخلق عقودات
كأن الكاتبة أرادت أن تميز الفقر عن الغنى وكما يقول الشاعر:
"وبضدها تتميز الأشياء"
وهي حكاية القرن الماضي كله فأتت برغبة مجنونة ربما صادفتها في نفسك ذات يوم لتعيد على مسامعنا التناقض الأزلي بين الغنى ومفرداته والفقر ولوازمه.
مآخذ على اللغة
لم أعثر على ما نعده خطأً لغويا سوى في موضع يتيم،وليس بخطأ لغوي بمعناه المفهوم لكنه يخالف مراد الكاتبة من حيث تركيبته.
فقد قالت أنه لم يفهم المسميات والصحيح الأسماء.. لأن المسمى هو الشيء الذي تعارف الناس على تسميته.. وهو لو رأى الدجاج مثلا لعرفه لكنه يجهل الأسماء الغريبة التي يلقبونه بها في مطاعم اليوم.
قراءة نقدية
بقلم/ خلف عبد الرءوف، وهشام النجار
القاصة والأديبة الأستاذة غادة يسرى تمتاز بأسلوب يحقق لك المتعة الذهنية فوق متعة التذوق الأدبي عند قراءة النص.. وإذا شئنا طبقنا هذا على قصتها الجميلة "اللقيمات الحانية".
انحياز للتجربة الشعورية ولو على حساب الأدوات الإبداعية الأخرى:
فالكاتبة لا تستوقفنا طويلا ً لوصف الأشخاص والأماكن.. بالرغم من أن إبراز هذه الأوصاف جوهري في توصيل المعنى المراد.
فوصف الملابس المتواضعة للبطل والبيت المتهالك أثاثا وبناءً ضروري لتوصيل صورة العالم الذي يعيشه البطل للقارئ.. لكنها تركتنا نتعرف على هذه الأوصاف دونما توقف.. ولكن من خلال الحدث (نظر عشرات المرّات إلى المرآة المكسورة المعلّقة في إهمال في غرفة نومه البسيطة.. و قبيل خروجه من المبنى الآيل للسقوط الذي يسكن فيه مع أمّه في إحدى شققه الصغيرة جدا ... أصرّ على تلميع حذائه المتماسك بصعوبة).
وهكذا فهي تصف لنا كل شيء من وضع الحركة وفى عجالة تتفق وجو المشهد.. وتعكس لنا بطريقة لا شعورية الحالة الشعورية للبطل المتعجل للحظة الولوج إلى عالم السعادة المنشودة، فلا وقت لدى البطل حتى تستوقفه الكاتبة لتصف لنا أحوال عالمه الذي يتعجل مغادرته.
إنها حساسية بالغة لا يتمتع بها إلا أديب متمرس يعيش التجربة الشعورية للعمل الأدبي بكل كيانه.. فيحدث هذا التناغم والانسجام بين الحالة الشعورية العامة المراد التعبير عنها والمعاني الجزئية، وبين الألفاظ والعبارات المستخدمة في التعبير عن المشهد الذي يتضمن هذه الحالة، فلا يستخدم العبارات الطويلة في وصف مشهد وحالة نفسية تسيطر عليها أجواء العجلة.
يبدو هذا الذي ذهبنا إليه واضحا بجلاء في مشهد دخول البطل المطعم الفاخر الذي عاش شهورا ً يحلم باللحظة التي يصير فيها من رواده ولو لمرة واحدة.
فقد كان من المتوقع أن تترك الكاتبة بطلها واقفا بالباب حالما تصف لنا روعة المكان ورفاهية مناضده وأبهة رواده ...الخ ، حتى نعيش نحن هذا العالم الرائع، ولكنها لم تفعل:
أولا لأن البطل كان متعجلاً لولوج هذا العالم الذي سبق له أن عاينه مليا.
وثانيا لأنه بمجرد أن دفع الباب سيطر عليه جو من الرهبة وتملكه شعور بالغربة وإحساس بالوحشة بين هذه العيون التي تحاصره بنظراتها المستوحشة.. وكأنه كائن غريب لم يألفهم ولم يألفوه.
فالكاتبة تشعرك دائما أنها تعيش بداخل البطل تعبر عنه بكل صدق وتنتقى له العبارات والجمل المناسبة لحاله.. وإن كان ذلك على حساب أدواتها الإبداعية الأخرى وبرغم أنها تروى القصة بضمير الغائب لا بضمير المتكلم، لكنها كانت دائما حاضرة في أعماق ضميره، إنها واحدة من الحانيات عليه المنتميات إلى عالمه البسيط.
رسائل فلسفية ، ومتعة ذهنية
فالقصة مع احتفاظها بجماليات وفنون القصة القصيرة الحديثة، فهي تحمل رسائل فلسفية وتمس مشاعر كامنة في النفس الإنسانية.
وقد عشنا مع رغبات بطل القصة الكامنة في ولوج عالم أبهره بفخامته وزينته وأبهته، وكيف تهيأ ببعض التلميعات والإصلاحات الظاهرية لخوض تجربة رمزية تشعره – ولو لبعض الوقت – بانتمائه ووجوده داخل ذلك العالم الغريب عليه..
فقد قرر تذوق طعام أحد المطاعم الفخمة الذي ينتمي لهذا العالم، لكنه لم يجد في تلك اللقيمات الباهظة الثمن رغم لذتها الظاهرة حنو وعطف لقيمات عالمه الحقيقي الذي ينتمي إليه.
ووفقت القاصة في رسم مشهد النهاية الذي عبر بصدق عن ارتباط بطل القصة بعالمه الحقيقي واحتفاء الجماد قبل البشر به:
( هرع إلى البيت.. أحسّ باحتضان درجات السلّم المتهالكة لحذائه المرقّع)
طغت المتعة الذهنية على متعة التذوق الفني في هذه القصة؛ فالقصة خلت – إلا في النادر – من الصور الفنية الجزئية.. واعتمدت فقط على رشاقة الألفاظ وقصر العبارات وسرعة وسهولة التحول من مشهد لآخر.. وهذا – مع البعد الفلسفي للقصة وتمكنها من اطلاعنا على ما يعتلج من رغبات ومشاعر متناقضة داخل النفس الإنسانية – عوض كثيرا الفقر الذي تعانيه القصة من ناحية التصوير الفني الجزئي.
السعادة الحقيقية
القصة من إحدى زواياها تكريم للأم وعودة إلى أحضانها وأشيائها الصغيرة وتفاصيل حياتها التي تبدو من الظاهر بسيطة، إلا أنها في جوهرها تملك سر السعادة وتمنح الراحة والطمأنينة، في مقابل التيه والضياع الذي يحياه المشاغبون الذين تنكروا للأم وتكبروا على (لقيماتها الحانية) وجحدوا عطاءها مبهورين بمظهر خادع، أو مسحورين بعالم مادي فقد الإحساس والروح، وداس على المبادئ والقيم وتنكر لكل شيء جميل في حياتنا.
ومن زاوية أخرى تضرب لنا القصة المثل لكل ما يرغبه الإنسان بعيدا ً عن عالمه وليس في متناوله؛ فقد يكون ظاهريا لذيذا وشهيا ومرغوبا لكنه - في الجوهر وعند الممارسة الفعلية – لن يشعر معه بالطمأنينة والحميمية التي يجدها فقط مع (لقيماته الحانية) التي تنتمي إلى عالمه وينتمي إليها.
إننا لن نشعر بالسعادة الحقيقية إلا عندما نعيش بين أحضان من يحبوننا لذواتنا مهما كانت رثاثة ثيابنا أو رداءة متاعنا، يحبوننا لشيء ما وقر في قلوبهم نحونا وامتزج بكيانهم.
فسيان حينئذ أن نرفل معهم في سعة القصور الكبار أو تؤوينا كهوف الجبال
الاثنين الموافق:
5/5/1431هـ
19/4/2010م
| الإسم | بلال |
| عنوان التعليق | معيرة |
| القصة جميلة ومعيرة |
عودة الى قصة قصيرة
|