صيام أهل الأديان عبر التاريخ جمع مادته/ فتحي البسيوني
تعددت التجارب الدينية عبر التاريخ.. فنشأ في كل منها قبل ظهور الإسلام شكل أو أكثر من أشكال الصيام.
منها ما اشتمل العامة.. ومنها ما اختصت به فئة دون أخرى.
وتعتبر شعيرة الصيام من أقدم الشعائر الدينية في التاريخ.. ولا نكاد نجد أمة من الأمم إلا وقد مارست نوعاً من الصوم.. كطقس من طقوس العبادة أو الزهد.
وهذا يشمل الصيام بمعناه العام الذي لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب.. بل أحدهما أو جزء منهما.. أو عن الكلام.. أو عن أي أمر ممكن تدفع النفس إليه، حتى وقت محدد.. إما لغاية عقيديه.. أو إنسانية.
أشكال قديمة للصيام
عرف بعض أشكال الصيام عند البدائيين.. وكان منها الصوم عن الكلام عند الأرامل.. فكانت الأرملة تعلن الحداد علي زوجها مدة ثلاثة شهور قمرية.. وفي هذه الفترة كانت تحلق شعر رأسها وتجرد نفسها من الملابس وتطلي جسمها بالطين.. وتقضي الشهور الثلاثة الأولي في بيتها صامته.
وكان هذا اللون من الصيام في ديانة بني إسرائيل.. وقد ذكر جيمس فريزر في كتابه "الفلكلور" أن الكلمة العبرية التي تعني أرملة معناها الأصلي هو المرأة الصامتة.
وقد أقر القرآن الكريم هذا اللون من الصيام في بني إسرائيل مرة عند بشارة زكريا بيحيى.. قال تعالي:
"قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً"
والمرة الثانية للسيدة مريم عليها السلام بعد وضعها ابنها عيسى عليه السلام إذ قال تعالي:
"فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً"
الصيام في مصر القديمة
عرف المصريون القدماء الصيام كفريضة دينية يتقربون بها من أرواح الأموات.. ويعتقدون أن صيام الأحياء يرضي الموتى لحرمانهم من طعام الدنيا وهو في الوقت نفسه تضامن معهم.
ويعرف الصيام لديهم بأنه فريضة يتقربون بها إلي الإله أو أرواح الموتى.. ممزوجة بشيء من الطقوس التي رسمها الكهنة، يمتنعون فيها عن بعض المأكولات.
وكان صيامهم نوعان صيام الكهنة.. وصيام الشعب.
فالأول يكون فرضاً أو استحباباً.. فكانت له مواعيده المحددة.. كما أنه يتطلب من الكاهن خدمة المعبد لمدة سبعة أيام متتالية من غير ماء قبل أن يلتحق بالمعبد.. وقد تمتد فترة الصيام إلى اثنين وأربعين يوماً يبدأ فيها صيامهم من طلوع الشمس إلى غروبها.. ويمتنعون فيها عن تناول الطعام ومعاشرة النساء.
وكان الكهنة يعتقدون أن صيامهم يضفي عليهم القدسية.. كما اعتقدوا ذلك في سائر طقوس العبادات.
أما صيام الشعب فكان أربعة أيام من كل عام.. وهناك صوم آخر يحرم فيه أكل أي شيء من الطعام عدا الماء والخضرة مدة سبعين يوماً.
وكانوا يصومون كذلك في الأعياد كوفاء النيل وفي موسم الحصاد.
الصوم عند بني إسرائيل
وفي عقيدة بني إسرائيل خلاف الديانات السماوية الأخرى.. يعد الصوم رمزا للحداد والحزن أو إحياء لذكرى نكبة أو كارثة في التاريخ اليهودي.. فيصومون تعبيراً عن الندم والتوبة وللتكفير عن ذنوبهم.
فاليهودي لا يعيش ثانية المأساة التاريخية لقومه مع كل صوم.. لكنه يعتبرها فرصة للبحث في الذات لنفسه ولقومه في الماضي والحاضر تتلى في أثنائها صلوات التوبة والكفارة في جميع أوقات الصوم.. وتقرأ التوراة في الصلاة العامة صباحا وبعد الظهر.
واليهود يصومون أياماً عدة متفرقة على مدار السنة.. أهمها "يوم الغفران" وأيام أخرى مرتبة بما يعرف بـ "أحزان بني إسرائيل".
ومعظم هذه الأيام مناسبات قومية.. ومن أهمها التاسع من أغسطس يوم خراب الهيكل الأول والثاني والسابع عشر من يوليو.. وهو اليوم الذي حطم فيه موسى عليه السلام ألواح الشريعة – بزعمهم.
ويصوم اليهود أيضا في الثالث عشر من مارس.. وهو صيام "استنير".. ويقع قبل عيد التنصيب.. وصيام أسابيع الحداد الثلاثة من السابع عشر من يوليو إلى التاسع من أغسطس.. ويوم الغفران الصغير وهو آخر يوم من كل شهر.. كما يصومون أيام الاثنين والخميس من كل أسبوع.. فهي الأيام التي تقرأ فيها التوراة.
وكما أن لديهم نوع خاص من الصيام الفردي يقوم به المرء مثلا في ذكرى وفاة أبويه أو أستاذه أو يوم زفافه.
وفي صوم يوم الغفران يمتنع اليهود عن الشراب وعن الطعام وعن الجماع.. كما يمتنعون عن ارتداء الأحذية الجلدية لمدة خمسة وعشرين ساعة.
وفي الماضي كان الصائمون يرتدون الخيش ويضعون الرماد علي رؤوسهم تعبيراً عن الحزن.. وإذا وقع يوم الصيام في يوم السبت فإنه يؤجل إلي اليوم التالي ما عدا صيام يوم الغفران.
الصيام عند المسيحيين
ويعد الصوم أيضا من أهم العبادات عند المسيحيين.. ومما يميز الصوم في عقيدة المسيحيين عنه في غيرها من العقائد.. أن تحديده من الأمور الخلافية.. لأن الديانة المسيحية لا تأمر بالصوم صراحة.
فعقيدتهم أنه ليس ثمة شيء يأمر الله بفعله بل تقدم كل الأوامر بفعل الخيرات باعتبارها أشياء جيدة نافعة.. ولأنها كانت مدونة في أعمال الرسل والمؤمنين.
وغالبا ما يكون التركيز في الصوم على عدم تناول الطعام.. ولكن الغرض الأساسي من الصوم لديهم هو أن نحول نظرنا من الأشياء المادية ونركز على الله.
فصوم المسيحيين عندهم "تعبير لله ولنفسك أنك جاد في علاقتك معه".
ومن اعتقادهم في الصيام أن الامتناع عن الطعام لفترات طويلة قد يكون ضاراً للجسد.. فليس المقصود بالصيام معاقبة الجسد.. بل التركيز على الله "فالصيام ليس لإقناع الله بفعل ما نريده.. فالصيام يغيرنا ولكن لا يغير إرادة الله.."
ومن أيام صيامهم الرئيسية "صوم الميلاد" وعدته ثلاثة وأربعون يوماً.. "والصوم المقدس" خمسة وخمسون يوماً.. وهذا الصوم يمتنع فيه عن أكل لحوم الحيوان أو ما ينتج منه كالألبان ومشتقاتها أو ما يستخرج من أصلها ويقتصر على أكل البقول.. ولا يعقد في أثنائه الزواج.. و"صوم الرسل" وهو ما بين خمسة عشر وتسعة وأربعين يوما.. "وصوم العذراء" خمسة عشر يوماً.
الصوم في الإسلام
اتبع العرب قبل الإسلام في صيامهم الأديان المحيطة بهم مثل المسيحية واليهودية.. فلما جاء الإسلام أقر شعيرة الصوم في السنة الثانية هجرياً وجعلها بذلك الركن الرابع من أركان الإسلام.. وأكد أنه لم يبتكره.. بل أنه كان سنة من سنن الأولين بقوله تعالي
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ".
وقد ذكر الصيام خمسة عشر مرة في القرآن، منها ما هو متعلق بصوم الفريضة.. ومنها ما هو بصوم النافلة.. ومنها مختص بصوم الكفارة.
والملاحظ أن الإسلام قد حاول ألا يخرج الصيام عن واقع الحياة.. لهذا أمر المريض والمسافر والحائض والنفساء بالإفطار.. وأكد أهمية السحور لتجديد الطاقة وتيسير أداء الفريضة.
وجاء الحديث القدسي ليلخص فلسفة الصوم في عبارة قصيرة
"الصوم لي وأنا أجزي به"
والكلام عن الصيام في الإسلام وفضله أشهر من أن نشير إليه..
تقبل الله صيامكم وصالح أعمالكم..
الجمعة الموافق
17-9-1431هـ
27-8-2010م
الإسم | احمد زكريا |
عنوان التعليق | موضوع شيق |
موضوع ظريف وشيق يتناسب مع شخصية الشيخ فتحي
ويربط تلك العبادة العظيمة بالتاريخ القديم |
عودة الى عقائد وأصول
|