محاضرة بجامعة اندونيسيا بقلم/ هشام النجار
أجواء رائعة ومشاعر عصية على الوصف ونحن نتحرك وسط عالم مختلف من دنيا الإنسان يكاد يحملنا من فوق الأرض بتواضعه وسموه الأخلاقي ورقيه الإنسان .
أجملُ ما في اندونيسيا الجميلة هو إنسانها الراقي المهذب الودود السمح الكريم .
استقبلنا أساتذة ومسئولون الجامعة العريقة وحدثونا طويلاً عن انجازاتها وتاريخها وتأثيرها الممتد إلى بلاد وثقافات قريبة وبعيدة .
تلك هي أخلاق الإسلام التي أعلمها جيداً ، أراها تطبيقاً عملياً على الأرض . فهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالادعاء إنما بالتطبيق العملي لأخلاقه العظيمة ، فالكبار وذوو المكانة قبل الصغار يتواضعون ويعاملون الآخر بتهذيب يفوق الوصف ، وما مر أستاذ جامعة ولا وزير ولا نائبه ولا عالم كبير بين اثنين يتحادثان إلا بانحناءة خفيفة وابتسامة لطيفة كأنه يعتذر عن هذه المقاطعة .
الرسول صلى الله عليه وسلم كان محور محاضرتي بالجامعة العريقة إلى جانب محاضرات الأساتذة الكبار من مفكرين وعلماء .
ذكرتُ أنه صلى الله عليه وسلم وضعَ لبنة دعائمَ وأركان الأمة الستة بما أرساه من أخلاقيات الفاتح العظيم عندما فتح الركن الأول من تلك الأركان وهى الجزيرة العربية ومكة المكرمة .
فتحها بالرحمة ودخلت الجموع والحشود دينَ الله بالعفو والصفح ورد الإساءة بالإحسان لا بالسيف والانتقام ، وكان ذلك المشهد النادر في تاريخ الإنسانية غير المسبوق في غزو القلوب والضمائر ، فيتحول الخصم إلى صديق ومن كان بالأمس عدواً صارَ جندياً خادماً للدعوة والرسالة ، وصارت الجزيرة العربية من ذلك اليوم أحدَ أهم أركان الأمة الستة ورقماً صعباً في معادلة موازين القوى لصالحها .
ورث صلاح الدين الأيوبي أخلاق الفاتح العظيم من الرسول الكريم ، وفتح الشام بعفوه وعطائه وبذله وسمو نبله مع الخصوم حال ضعفهم وعجزهم بالرغم مما ارتكبوه من بشائع في حق المسلمين ومقدساتهم ، فدخلوا بهذه الأخلاق في دين الله أفواجاً ليصبحَ بيت المقدس وأكناف بيت المقدس وبلاد الشام هي الركن الثاني من أركان الأمة الأساسية التي تعطيها القوة والمنعة والصمود .
وبيت المقدس ميزان دقيق من خلاله نقيس بسهولة موقعنا صعوداً وهبوطاً . فعندما يكون بيد الأعداء فقيادة العالم بأيديهم ، ولا تعود القيادة للمسلمين إلا بعودة بيت المقدس إليهم ، وهذا ثابت تاريخي لم يتبدل يوماً .
مصرًُ هي الركن الثالث من أركان الأمة ، ونعلمُ كمصريين كيف فتحها عمرو بن العاص ، وكيف أعادَ الهاربين إلى الصحراء وكيف عامل القساوسة والرهبان ، وفى إحدى الصلوات الكنسية السنوية الاحتفالية للكنيسة الأرثوذكسية ، يشكرون عمرو باسمه على صنيعه معهم . فدخل من كل أطياف المجتمع المصري الإسلام ، وتضاعفت نسبة المسلمين حتى بدأت تسجل تفوقاً بداية من العهد الفاطمي وصولاً إلى الغالبية اليوم ، ولتصبح مصر حصن الإسلام المنيع وحائط صده العالي القوى .
وكذلك فعل الفاتح الشاب محمد بن القاسم الثقفي في فتحه لباكستان والهند ، فقد كان يؤلف بنفسه كتباً يعلم من خلالها جنوده وعماله كيف يتعاملون برفق ورحمة ورقى مع أهل البلاد ، ويذكر التاريخ أن النساء والأطفال بكوه عندما عُزل عن الجيش ، ورسمَ الشباب صورته على جدران البيوت كأنه " جرافيتي مُبكر " ربما استوحته الثورة على الظلم حديثاً بصورة تلقائية لا شعورية .
وكانت تركيا الركن الخامس عندما فتحَ الشاب محمد الثاني القسطنطينية بالحب والرحمة والعفو عقب كسر قيود القهر والعبودية .
وإذا كانت المراجع التاريخية العربية تلقبه بأبي الفتوح لكثرة فتوحاته ، فالمراجع الأوربية تلقبه بالسيد العظيم لنبله وسمو أخلاقه مع الأعداء والخصوم ، وما فعله عندما أمن الأتراك والمخالفين على عقائدهم وأرواحهم وطمأن الخائفين والمروعين هو السبب الفعلي في تحول تركيا بعد ذلك إلى الإسلام ودخول هذه الجموع هذا الدين العظيم .
واندونيسيا الركن السادس من أركان الأمة ، دخلها الإسلام بسمو أخلاق وتسامح وعفو ورقى وإبداع التجار والأولياء التسعة في القصة المشهورة عنهم .
تلك هي أركان الأمة ، ينبغي علينا الحفاظ عليها كما نحافظ على أركان ديننا وإيماننا .
الأعداء والغرب وإسرائيل يستهدفون هذه الأركان الستة بزعزعتها ونشر الخلل الفكري والتكفير والفوضى والتخريب والتفجيرات والكراهية والفتن .
أركان الأمة لن تستمر ولن تصمد إلا بما فُتحت به .. بالعفو والغفران والتسامح والرحمة والعفو عند المقدرة ، ونبذ الكراهية والأحقاد ورغبات الانتقام والثأر وإصلاح العلاقة بين الحكام والمحكومين وبين كل تيارات وطبقات المجتمع .
الثلاثاء الموافق
4 ربيع الأول 1435 هـ
7-1-2014
عودة الى كتب ودراسات
|