أبو عبد الله الجلّاء.. الرجل الذي وهبه أبواه لله بقلم د/عمار علي حسن
واحد ممن جاهدوا أنفسهم عن كل ما يؤدى إلى الصراع والبغضاء في الدنيا.. وما أكثرهما وعلى كل ما يفتح باباً وسيعاً نحو رضا الله في الآخرة.. وما أصعبه على ذوى النفوس الشقية.
صاحب عظماء الصوفية.. وكان ابناً لأحدهم.. وهبه لله ونسيه فلم يدعه ربه.. اتخذ من بساطة العيش طريقاً.. ومن الزهد رفيقاً.. ومن المحبة صديقاً.. وتحدث في أمور التصوف فكان فصيح العبارة.. واضح الإشارة.. ورعاً تقياً نقياً.
هو أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلّاء.. يعود مسقط رأسه إلى بغداد.. لكنه أقام بالرملة ودمشق.. وصار مع الأيام من مشايخ الشام الذين يشار إليهم بالبنان في القرن الثالث الهجري.
وقد صاحب عدداً من أبرز أعلام الصوفية من بينهم "ذو النون المصري" و"أبو تراب النخشبي" و"أبو عبيد اليسرى" و"أبو عمرو الدمشقي" أحد مشايخ الشام أيضاً.. بل أوحدها علماً بعلوم الحقائق.. ومن أصحابه كذلك "أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن المولد"، وهو من أبرز مشايخ الرقة.. وأحسنهم سيرة وسمعة.
وقال الجلاء عن بعض أولئك الأعلام:
رأيت ذا النون وكانت له العبارة.. ورأيت سهلاً وكانت له الإشارة.. ورأيت بشر بن الحارث وكان له الورع.. وهكذا أخذ من ثلاثتهم أركان تصوفه.. فزاوج بين حسن التعبير وعمق التدبير.
وكان الأب صوفياً أيضاً.. وكان خادم بشر الحافي.. ومن خيار عباد الله الصالحين ولقي الصوفي الكبير معروف الكرخي.
ويروى أبو عبد الله عن والده أنه كان يقول:
يحتاج العبد أن يكون له شيء يعرف به كل شيء
وقد وهب ابنه لله سبحانه وتعالى.. بناء على طلبه.
ولهذا حكاية يرويها ابن الجلّاء نفسه فيذكر:
قلت لأبى وأمي: أحب أن تهباني لله عز وجل.
فقالا: قد وهبناك.
فغبت عنهما مدة.. فلما رجعت كانت ليلة مطيرة.. فدققت الباب فقال لي أبى: من ذا؟
قلت: ولدك أحمد
فقال: كان لنا ولد.. فوهبناه لله تعالى.. ونحن من العرب لا نسترجع ما وهبناه.. ولم يفتح لي الباب.
ويقول أتباع التيار السلفي عن ابن الجلّاء إنه كان من أهل السنة والجماعة.. أو من أعلام التصوف السني.. وإنه قد روى الحديث.. لكن هناك من يقول:
لا نعلم أن ابن الجلّاء أسند شيئاً.
وشهد له كثيرون.. فها هو إسماعيل بن نجيد يؤكد:
كان يقال: إن في الدنيا ثلاثة من أئمة الصوفية لا رابع لهم الجنيد ببغداد وأبو عثمان بنيسابور وأبو عبد الله بن الجلاء بالشام.
ووصفه أبو القاسم القشيري بأنه:
من أكابر مشايخ الشام.. فيما قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقاته:
كان عالماً ورعاً.. وهناك من يقول عنه:
هو صاحب النكت اللطيفة.. أحد أئمة القوم.. لم يكن بالشام في حاله شبيه مذكور.. تخرج به جماعة من المذكورين.
وقال أبو بكر الدقي: ما رأيت شيخاً أهيب من ابن الجلاء مع أنى لقيت ثلاث مائة شيخ.
وكان يقال إنه ثاني ثلاثة لا نظير لهم الجنيد ببغداد وابن الجلاء بالشام وأبو عثمان الحيرى بنيسابور.. ويقول ابنه:
ما جلا أبى شيئاً قط.. ولكنه كان يعظ.. فيقع كلامه في القلوب فسُمِّى جلّاء القلوب.
وتتلمذ على يد الجلاء كثيرون في مطلعهم أبو الخير الأقطع الذي ينسب إليه القول:
ما بلغ أحد إلى حالٍ شريفة.. إلا بملازمة الموافقة في العلم والعمل ومعانقة الأدب وأداء الفرائض وصحبة الصالحين.
أما الجلاء نفسه فقد تتلمذ على أيدي كثيرين.. يذكر واقعة جرت له مع أحدهم من دون أن يفصح عن اسمه حين يقول:
كنت أمشى مع أستاذي.. فرأيت حدثاً صبياً جميلاً .
فقلت: يا أستاذي ترى يعذِّب الله هذه الصورة؟
فقال: أو نظرت إليه سترى غبّه (أي عاقبته).
قال: فنسيت القرآن بعده بعشرين سنة.. وفى رواية أخرى: فبقيت عشرين سنة وأنا أراعى ذلك فما أجد ذلك الغب.. فنمت ليلة وأنا مفكر فيما قال لي الأستاذ.. فأصبحت وأنا قد أُنسيتُ القرآن.
وله حكاية أخرى مع صاحبه أبى عبيد اليسرى حيث يقول:
قدمت على أبى عبيد فأخلى لي بيتا.. فكان يأتيني بعد صلاة العشاء الآخرة.. فيقف على الباب فيقول:
ما أظن أبا عَبْد الله يعدل بالوحدة شيئاً.. فأقول:
إلا منك.. فيقول: إلا منى؟.. فأقول: نعم.
فيدخل.. فيذاكرني إلى أن يؤذن المؤذن بصلاة الفجر.. فنخرج ونصلى.
وللجلاء تعريف عميق للتصوف.. يوضح فيه أن الراسخين في الإيمان يرون الكون كله ناقصاً.. ما دام لم ينشغل الإنسان برب الكون من له الكمال والجلال ويعبر عن هذا قائلاً:
التصوف رؤية الكون بعين النقص.. بل غض الطرف عن كل ناقص بمشاهدة من تنزه عن كل نقص.
وسئل ذات مرة عن معنى الصوفي فقال:
ليس يعرف من شرط العلم ومعناه مجرد من الأسباب كأن الله معه بكل مكان.. فلا يمنعه الحق من علم كل مكان فسمى صوفياً.
وأنشد ذات يوم مخاطباً ربه سبحانه وتعالى راغباً في الوصول إليه.. ومبيناً كيف يراه نصب عينيه بلا انقطاع.. وينشغل به في كل لحظة بلا كلل ولا ملل:
خيالك حين أرقد نصب عيني
إلى وقت انتباهي لا يـــــــزول
وليس يزورني صلة ولكـــن
حديث النفس عنه هو الوصول
ويفرق ابن الجلاء بين الزاهد والعابد والموحد في عبارة دالة يقول فيها:
من استوي عنده المدح والذم فهو زاهد.. ومن حافظ على الفرائض في أول مواقيتها فهو عابد.. ومن رأى الأفعال كلها من الله فهو موحد لا يرى إلا واحداً.
وكان ابن الجلاء يدعو إلى التوكل على الله.. وألا ينشغل الإنسان بما سيأتيه من رزق في قابل الأيام.. لأن هذا الانشغال يلهى النفس عن تلمس طريق الحق.. ويجعلها في عوز دائم إلى الناس.. وهنا يقول:
اهتمامك بالرزق يزيلك عن الحق.. ويفقرك إلى الخلق.
ومن الحكايات التي تروى للدلالة على توكله تلك التي يقصها علينا حمدان بن بكرى قائلاً:
لقيت أبا عبد الله بن الجلاء في الطواف.
فقال لي: من أين أحرمت؟
قلت: على طريق تبوك.
قال: على التوكل؟
قلت: نعم
قال: أنا أعرف من حج اثنتين وخمسين حجة على التوكل.. وهو يستغفر الله تعالى منها.
قلت: يا عم! بحق هذه البنية (يعنى الكعبة) من هو؟
قال: أنا وأستغفر الله من ذلك.. وبكى.
وهناك حكاية أخرى يقول فيها:
كنت يوماً جالساً عند معروف .. فجاء رجل فقال له:
رأيت أمس عجباً!.. اشتهى أهلي سمكة فاشتريتها.. فبينما أنا أطلب من يحملها إذا بصبي ملتف بعباءة معه طبق.
فقال: عم! تحمل عليه؟
قلت: نعم.. فحملها.. فمررنا بمسجد يؤذن فيه الظهر
فقال: يا عم! هل لك في الصلاة؟
قلت: نعم.. فطرحها ودخل المسجد وصلى.. فلما أقيمت الصلاة.
قلت: صبى توكل على الله في طبقه.. ألا أتوكل على الله في سمكة؟
فتركتها وصليت.. وخرجت فإذا هي بحالها.. فحملها.. ثم عاد إلى ما كان عليه من الذكر إلى أن وصل إلى منزلي.. فأخبرت أهلي خبره.
فقالوا له: كل معنا
فقال: إني صائم.
فقلت: تفطر عندنا،
قال: نعم، فأين طريق المسجد؟.. فدللته عليه.. فلم يزل راكعاً ساجداً إلى العصر.
فلما صلى العصر جعل رأسه بين ركبتيه إلى الغروب.. فصلى.
فقلت له: هل لك في الفطور؟
قال: على العادة.
قلت: وما هي؟
قال: بعد العشاء.. فلما كان بعدها أخذته إلى البيت.. وغلقت الباب.. وكانت لي ابنة مقعدة في بيت الدار منذ زمان.. فبينما نحن في جوف الليل.. وإذا بداق يدق باب البيت.
فقلت: من هذا؟
قالت: فلانة.. فبادرناها.. فإذا هي تمشى.
فقلنا: ما شأنك؟
قالت: لا أدرى.
إني سهرت الليلة.. فألقى في نفسي أن أسأل الله بحق ضيفكم.
فقلت: إلهي! بحق ضيفنا إلا أطلقتني.. فكان ما ترون.
قال: فبادرت البيت أطلب الصبي وإذا الباب مغلق.. وهو قد ذهب.
قال: فبكى معروف.
وقال: نعم.. منهم كبار وصغار.
وقال أبو عبد الله الجلاء:
أعرف من أقام بمكة ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم.. إلا ما استقاه بركوته ورشاؤه.
وقد اعتبر الجلاء أن من يصل إلى المحبة فقد ارتقى شأناً عظيماً على طريق التصوف.. وقيل ذات مرة له:
هؤلاء الذين يدخلون البادية بلا عدة.. ولا زاد يزعمون أنهم متوكلة فيموتون قال: هذا فعل رجال الحق.. فإن ماتوا فالدية على القاتل.
وحين كان يسأله الناس عن المحبة يقول لهم:
ما لي وللمحبة أنا أريد أن أتعلم التوبة.. وفى رواية أخرى: «مالي ولها! أنا أريد أن أتعلمها.
وكان يقول في المحبة: الدنيا أوسع رقعة وأكبر زحمة من أن يجفوك واحد ..فلا يرغب فيك آخر ..ثم ينشد:
تلقى بكل بلاد إن حللت بها
أهلاً بأهل وجيراناً بجيران
وينشد أيضاً في باب المحبة قصيدة يبين فيها كيف يسهر ليلة متفكراً في ربه هائماً به عشقاً.. يقول فيها:
أراعى النجوم، ولا علم لي
بعد النجوم بجنب الظلام
وكيف ينام فتى لا ينام
إذا نام عنه عيون الحمام
أسير يسير إليه هواه
فيضحى الأسير قتيل الغرام
فلم يبق منه سـوى أنه
يقال له: عاشق، والسلام
لفرط النحول، وحـر الغليل
وحزن مذيب لطول السقــام
وهناك قصيدة أخرى في العشق الإلهي يقول فيها:
لولا مدامع عشاق ولوعتهم
لبان فى الناس عز الماء والنار
فكل نار فمن أنفاسهم قدحت
وكل ماء فمن عين لهم جارٍ
وآمن الجلاء بأن طريق الحق واحد وواضح لا لبس فيه ولا مداراة ولا تحايل.. وفى هذا ينسب إليه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقاته القول:
من علت همته على الأكوان وصل إلى مكونها.. ومن وقف بهمته على شيء سوى الحق فاته الحق.. لأنه أعز من أن يرضى معه بشريك.
وسئل الجلاء مرة أخرى عن الحق فقال في ثقة متناهية:
إذا كان الحق واحداً يجب أن يكون طالبه واحدانى الذات.
وكان يقول أيضاً في هذا الشأن:
الحق استصحب أقواما للكلام.. واستصحب أقواما للخلة.. فمن استصحبه الحق لمعنى ابتلاء بأنواع المحن.. فليحذر أحدكم طلب رتبة الأكابر.
وقال أيضاً:
سمت همم المريدين إلى طلب الطريق إليه.. فأفنوا نفوسهم في الطلب.. وسمت همم العارفين إلى مولاهم فلم تعطف على شيء سواه.
وهنا يقول كذلك:
من بلغ بنفسه إلى رتبة سقط عنها.. ومن بلغ به ثبت عليها
ويدعو الجلاء مريديه إلى أن يأنسوا الله في قلوبهم وأمام عيونهم ممتزجاً في نفسه المقدس بما يأنس ويقول:
لا يطيب العيش إلا لمن وطئ بساط الأنس وعلاه على سرير القدس وغيبه الأنس بالقدس والقدس بالأنس.. ثم غاب عن مشاهدتهما بمطالعة القدوس.
وكما جاء في "الرسالة القشيرية" فإن الأنس عند المتصوفة أتم من البسط.. وهو عندهم مع الهيبة فوق القبض الذي هو أعلى درجة من الخوف.. وفوق البسط الذي هو أرفع منزلة من الرجاء.
وحالة الهيبة والأنس وإن جلتا.. فأهل الحقيقة يعدونهما نقصاً لتضمنهما تغير العبد.. فإن أهل التمكين سمت أحوالهم عن التغير.. وهم محو في وجود العين.. فلا هيبة لهم ولا أنس ولا علم ولا حس.
ويتحدث ابن الجلاء عن الفقر باعتباره ستراً وليس عورة.. إن استغنى الإنسان بربه عمن سواه ولم يشكو من عوزه لأحد.. ورضي من الدنيا بالقليل وهنا يقول:
آلة الفقير صيانة فقره وحفظ سره وأداء فرضه.
بل كان يدعو الفقراء إلى أن يرفعوا رؤوسهم ويمشوا بخيلاء غير منسحقين أمام حاجتهم أبداً.. ولذا كان يقول:
لولا شرف التواضع كان حكم الفقير إذا مشى يتبختر.
وسُئل ذات يوم عن الفقر.. فسكت.. ثم ذهب ورجع عن قرب ثم قال:
كان عندي أربعة دوانق.. فاستحييت من الله تعالى أن أتكلم في الفقر وهى عندي فذهبت فأخرجتها.. ثم قعد وتكلم في الفقر وهو جيوبه خالية تماماً.
وسئل مرة أخرى عن الفقر فقال:
اضرب بكميك الحائط وقل ربى الله فهو الفقر.
ووجه إبراهيم بن المولد ذات يوم سؤالاً إلى ابن الجلاء:
متى يستحق الفقير اسم الفقر؟
فأجابه: إذا لم يبق عليه بقية منه.
فقلت: كيف ذاك؟
فقال: إذا كان له فليس له.. وإذا لم يكن له فهو له.
ولما مات ابن الجلاّء يوم السبت الثاني عشر من رجب سنة 306 هـ نظروا إليه.. وهو يضحك:
فقال الطبيب: إنه حي.. ثم نظر إلى مجسته.
فقال: إنه ميت.
ثم كشف عن وجهه.. فقال: لا أدرى أهو ميت أم حي!.
وكان في داخل جلده عِرق على شكل الله.. فكان إذا جاء إنسان ليغسله لبسته منه هيبة لا يقدر على غسله حتى جاء رجل من إخوانه فغسله وكفنه وصلى عليه ودفن.
الأحد الموافق
4 شوال 1434 هـ
11-8-2013م
عودة الى الذين سبقونا
|