الهجرة ..والنصر الحقيقي
بقلم عبد العزيز محمود
"إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" .
في السنة العاشرة بعد الهجرة يتحدث القرآن عن هجرة الحبيب (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلي المدينة.. وذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعا ً.. كما تضيق القوة الغاشمة دائما ً بكلمة الحق.. لا تملك لها دفعا ً.. ولا تطيق عليها صبرا ً.. فائتمرت به.. وقررت أن تتخلص منه.
فأطلعه الله على ما ائتمرت.. وأوحي إليه بالخروج.. فخرج وحيدا ً إلا من صاحبه الصدّيق.. لا جيش ولا عدة.. وأعداؤه كثر.. وقوتهم إلى قوته ظاهرة.
الحديث عن الهجرة جاء وسط الآيات التي تحث على الجهاد والنفير وعدم الركون إلي الأرض.. مخاطبا ً القوم وموضحا ً لهم معني النصر.. إن النصر الحقيقي هو انتصار العقيدة.
إن البشرية عامة تقدر النصر وتقيسه بمقاييس مادية.. فمحمد (صلى الله عليه وسلم) يخرج فارا ً من أحب البلاد إليه.. والقرآن يحكى.. والسياق يرسم مشهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصاحبه " ِإذْ هُمَا فِي الْغَارِ" والقوم على إثر هما يتعقبون.. والصديق - رضي الله عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهم فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب.. يقول له: " لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه".
والرسول (صلى الله عليه وسلم) وقد أنزل الله سكينته على قلبه.. يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ".
ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول (صلى الله عليه وسلم) مع صاحبه منها مجرد؟.
كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس.. وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار.
إذن النصر الحقيقي هو انتصار العقيدة التي جعلت المؤمنين يسيرون على الأرض وقلوبهم معلقة بالسماء.
العقيدة التي تملكت القلوب وسيطرت عليها فأصبحت سلوكا ً وسمة من سمات هذا الجيل.. وستظل الهجرة من مكة إلى المدينة دليلا ً واضحا ً على هذه العقيدة التي تحولت إلى سلوك.
وستظل كذلك أكبر مثال لانتصار النفس البشرية على نفسها.. النفس التي نزعت نفسها من ثقلة الأرض.. ومطامع الأرض.. وتصورات الأرض.. نزعت نفسه من الخوف على الحياة.. والخوف على المال.. والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع التي نزعت نفسها من الدعة والراحة والاستقرار.. نزعت نفسها من الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب.
فلا عجب بعد ذلك أن نسمع أو نقرأ أن صهيب الرومي ترك كل ماله وهاجر.. وأن أبو سلمة ترك زوجته وابنه وهاجر.. ومن بعده أم سلمة لم يهدأ لها بال أو يجف لها دمع حتى خرجت وراء زوجها.
وغيرهم من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنهم جميعاًً.
إن الهجرة هي أكبر مثال لانتصار النفس البشرية على نفسها.. إننا على مستوى الأفراد والجماعات والأمم والشعوب في حاجة عندما نتحدث عن الهجرة أن نعى هذا الدرس العظيم.. وهو عندما انتصرت النفس البشرية على نفسها ممثلة في رسول وصحبه الكرام تحقق لهم النصر على أعدائهم.
ولو كان النصر بالفرار إلى مكان آمن تستطيع أن تقيم فيه شعائر الله دون خوف أو رعب.. تستطيع أن تحقق هدفك هداية الخلائق، وأن تكون سببا ً في دخول الناس في دين الله أفوجا.
وإذا كان الإسلام اليوم يتعرض لهجوم من أعدائه متمثلا ً في غزو بلاد الإسلام ومحاربة معالمه وصوره في منع المآذن وارتداء النقاب وغيره من صور الهدي الظاهر.. فالله قد حكم وحكمه الحق أن تكون كلمة الذين كفروا هي السفلى وكلمة الله هي العليا.
فالهجرة مثال لنصرة الله لرسوله وكلمته.. والله قادر على أن يعيد هذا النصر على أيدي قوم آخرين.. لكن عليهم أن يهاجروا إلى الله بترك ما نهى الله عنه.. وأن يحققوا النصر على أنفسهم وأن تكون حركتهم وسكنتهم منطلقة من عقيدة صحيحة.. فينتج عنها سلوك منضبط ولا يأتي الإسلام من قبلهم.
فنحن مطالبين بنصرة هذا الدين والدفاع عنه وعدم الركون إلى الدنيا وإلا تحقق سنة الله في خلقه.. والله غني عن العالمين.
"يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ "
"إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "
"إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "
"ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"
ولقد أدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير.. فنفروا والعوائق في طريقهم.. والأعذار حاضرة ولو أرادوا التمسك بالأعذار.
ففتح الله عليهم القلوب والأرضيين، وأعز بهم كلمة الله، وأعزهم بكلمة الله، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح.
عودة الى السيرة النبوية
|