القصيدة الدمشقية .. للشاعر/ نزار قبانى تقديم/ هشام النجار
بعض من الشعر يغنى.. خاصة إذا كان لقامة كبيرة كنزار قبانى.. وقد يكون بعضنا حُرمَ من زيارة سوريا ولم يسكن ولو لأيام في بيت من بيوت دمشق ولم يقف على جبل من جبالها ذات مساء.. لكنها مرسومة في قلوب عاشقيها من العرب والمسلمين والمسيحيين على السواء.
هذى دمشق .
لا .. لا تتخيل نزار هنا بقامته الفارعة وطلته الشامية واقفاً على شرفته أو فوق جبل يشيرُ بيده إلى معشوقة الملايين.. إنما هو يفتح قلبه بيديه ليُرِى العالمين عاصمته ومُقامه وحبه الأول والأخير.. تسكنه ويسكنها لا تفارقه وإن ابتعدَ جسده عنها .. وقد بلغَ معها في مقامات الحب مقاماً قلما يصلُ إليه المتجردون من العاشقين.
فكيف بجسد عاشق مصلوب على جدار معشوقته يتلقى الطعن بالسكاكين والسيوف فيتقطر من جسده تاريخ وتراث وأسماء رموز بلده الحبيب.. وتفوح من دمه رائحة بساتين دمشق وفاكهتها .
هذا سر دمشق يفوح مع الدم المتناثر الغزير.. يبوح به نزار والنار تحرق الأطفال والنساء والشباب بل وحتى الحمير.
ولمن يسأل عن سر الصمود والبقاء والإصرار والعناد.. فتلك بلاد ارتبط بها أهلها لدرجة التوحد مع أدق وأصغر وأرق التفاصيل.. حتى رائحة هيل القهوة وطاحونة البن والمآذن وعيون النساء وكحل الصبايا ومكان جلوس كبير العائلة.. وشكل النبوغ في صبية شامية جميلة .
هذى دمشق في قلب نزار وفى قلوب كل محبيها وعاشقيها.. فأين شبابها وجمالها ومذاق الفرح في ربوعها .. مالها تصارعُ دائماً الأهوال وتقتنصها الأحزان وتستهدفها الآلام ، ولا يتوقف فيها صوت الحروب ولا تخرس آلة القتل ؟
مالها .. أليس في التاريخ ثغرة انحازت فيها دمشق لهدنة ، لترتاح قليلاً في ظل الفرح.. وينعم المحبون ويحظون بيوم هادئ هانئ مع محبوبتهم ؟
مالها .. وقد استولى عليها وتصدر مشهدها وعبر عنها كذابون ونصابون ؟
مالِ دمشق وقد أغوت السفاحين وتغرى الدخلاء وأصحاب المصالح وتجار الحرب لدكها وقصف الحب فيها واستئصال أحلام صباياها وشبابها وأنهاك قواها وذبح كل التفاصيل الصغيرة والمعاني الجميلة والأخلاق والأعراف والقيم ؟
ماذا بقى فيها يا نزار اليوم ؟
أراك تنزع بيديك تكشف عن قلبك لترينا وترى العالم .. هذى دمشق .
دمشق اليوم مصلوبة على جدار عاشقيها ومحبيها.. يطعنها الدخلاء والغزاة بشراسة وغل.. يُقطر جسدها الغض قصائدَ وهتافات محبيها ورسائل عاشقيها مُعطرة بالفل في ملحمة حب نادرة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً .
القصيدة الدمشقية
للشاعر/ نزار قبانى
هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ |
إنّي أحبُّ وبعـضُ الحـبِّ ذبّاحُ |
أنا الدمشقيُّ لو شرّحتمُ جسدي |
لسـالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ |
و لو فتحـتُم شراييني بمديتكـم |
سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا |
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا |
وما لقلـبي –إذا أحببـتُ- جـرّاحُ |
الا تزال بخير دار فاطمة |
فالنهد مستنفر و الكحل صبّاح |
ان النبيذ هنا نار معطرة |
فهل عيون نساء الشام أقداح |
مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تعانقـني |
و للمـآذنِ كالأشجارِ أرواحُ |
للياسمـينِ حقـولٌ في منازلنـا |
وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتـاحُ |
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنـا |
فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ |
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ" منتظرٌ |
ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ و لمـاحُ |
هنا جذوري هنا قلبي هنا لغـتي |
فكيفَ أوضحُ؟ هل في العشقِ إيضاحُ؟ |
كم من دمشقيةٍ باعـت أسـاورَها |
حتّى أغازلها والشعـرُ مفتـاحُ |
أتيتُ يا شجرَ الصفصافِ معتذراً |
فهل تسامحُ هيفاءٌ ووضّـاحُ؟ |
خمسونَ عاماً وأجزائي مبعثرةٌ |
فوقَ المحيطِ وما في الأفقِ مصباحُ |
تقاذفتني بحـارٌ لا ضفـافَ لها |
وطاردتني شيـاطينٌ وأشبـاحُ |
أقاتلُ القبحَ في شعري وفي أدبي |
حتى يفتّـحَ نوّارٌ وقـدّاحُ |
ما للعروبـةِ تبدو مثلَ أرملةٍ؟ |
أليسَ في كتبِ التاريخِ أفراحُ؟ |
والشعرُ ماذا سيبقى من أصالتهِ؟ |
إذا تولاهُ نصَّـابٌ ومـدّاحُ؟ |
وكيفَ نكتبُ والأقفالُ في فمنا؟ |
وكلُّ ثانيـةٍ يأتيـك سـفّاحُ؟ |
حملت شعري على ظهري فأتعبني |
ماذا من الشعرِ يبقى حينَ يرتاحُ؟ |
يوم السبت الموافق:
8من ذي القعدة 1434
14/9/2013
عودة الى ديوان الشعر
|